عندما تتخطى أنقرة التحدي الأولي المتمثل في تحديد موعد للانتخابات في ظل مأساة إنسانية تفوق التصور، فستواجه موسم حملات تهيمن عليه النقاشات المتعلقة بسير جهود الإغاثة ومستوى مسؤولية الحكومة عن حصيلة القتلى المتزايدة.
سيتم تذكّر الزلزال الذي ضرب عشر مقاطعات في جنوب تركيا في 6 شباط/فبراير كأسوأ كارثة إنسانية شهدتها البلاد في التاريخ الحديث. فقد لقي أكثر من 31000 شخص حتفهم في تركيا حتى 13 شباط/فبراير، بينما أصيب ما لا يقل عن 80000 شخصاً بجراح وربما أصبح الملايين بلا مأوى، بالإضافة إلى وقوع العديد من الضحايا في سوريا المجاورة.
ويتمثل التحدي الأكثر إلحاحاً في البلاد في توفير الإغاثة لأكثر من 13 مليون مواطن يعيشون في المناطق التي تأثرت بشكل مباشر بالهزات الأرضية. ومع ذلك، ففي سياق هذه الجهود، ستواجه أنقرة تحدياً سياسياً عملياً أيضاً يتمثل بتحديد ما إذا كانت ستجري الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لهذا العام، ومتى ستجريها، علماً أنه يلزم إجراؤها قانوناً في 18 حزيران/يونيو أو قبل ذلك وفقاً لدستور البلاد. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل سيحاول الرئيس رجب طيب أردوغان تأجيل الانتخابات حتى هذا الموعد النهائي أو ما بعده، وإذا كان الأمر كذلك، فما هي تداعيات ذلك على الديناميكيات الاجتماعية والسياسية التركية؟
التحديات اللوجستية أمام إجراء الانتخابات
في 21 كانون الثاني/يناير، أي قبل أسبوعين فقط من وقوع الزلزال، أشار أردوغان إلى إمكانية إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مزدوجة في 14 أيار/مايو. ولكن الحجم الهائل للكارثة اللاحقة سيجعل من الصعب للغاية التحضير لاقتراع وطني في أقل من تسعين يوماً، حتى بغض النظر عن المعوقات الشخصية والعاطفية أمام التعامل مع المسائل الانتخابية وسط هذه المأساة.
يعيش أكثر من 15 في المائة من سكان تركيا البالغ عددهم 85 مليون نسمة في منطقة الزلزال المباشرة، حيث انهار حوالي 7000 مبنى وأصبحت عشرات آلاف المباني الأخرى غير صالحة للسكن. وينتقل العديد من الناجين إلى ملاجئ مؤقتة ومدن مؤلفة من الخيم/الحاويات وسيعاد نقلهم إلى أماكن أخرى في النهاية، بينما يغادر العديد من الآخرين المنطقة إلى أجل غير مسمى. وستخلق كل هذه الحركة والفوضى تعقيدات للمجالس الانتخابية عند إصدار بطاقات الاقتراع، من بين صعوبات أخرى. كما دمر الزلزال البنية التحتية الرئيسية في العديد من المدن الجنوبية، لا سيما أنطاكيا وكهرمان ماراس، مما يجعل من غير المحتمل عودة الحياة إلى طبيعتها في هذه المناطق لشهور، إن لم يكن لسنوات قادمة.
سيناريوهات التأجيل
وفقاً للدستور التركي، يجب إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة في موعد لا يتجاوز خمس سنوات بعد الانتخابات السابقة التي أجريت في حزيران/يونيو 2018، مما أدى إلى تحديد الموعد النهائي لهذا العام في 18 حزيران/يونيو. وبما أن تاريخ 14 أيار/مايو الذي اقترحه أردوغان لم يتم تحديده رسمياً قط ونظراً لحجم أعمال الإغاثة والاستعدادات الانتخابية التي يتعين القيام بها في جنوب البلاد، فقد توافق الأحزاب السياسية على إجراء الانتخابات في وقت متأخر بقدر الإمكان، أي 18 حزيران/يونيو أو ما قبل ذلك بقليل. وهذا من شأنه أن يمنح البلاد ما يقارب 120 يوماً للاستعداد، على الرغم من أن العديد من العقبات المذكورة أعلاه ستظل قائمة.
ويسمح الدستور للحكومة مبدئياً بتأجيل الانتخابات لمدة تصل إلى عام في ظلّ ظرف واحد وهو إذا كانت البلاد في حالة حرب. ولكن هذا السيناريو يبدو غير مرجح على الإطلاق في الوقت الحالي. وعلى الرغم من أن علاقات أنقرة مع بعض جيرانها (خاصة اليونان) كانت متوترة في السنوات الأخيرة، إلا أن المساعدة السخية التي قدمتها هذه الدول بعد الزلازل من جميع أنحاء العالم تقريباً تُغير وجهات نظر الشعب التركي بشكل كبير. وحتى أرمينيا، التي لا تربطها علاقات دبلوماسية مع أنقرة، قدمت مساعدات كبيرة.
ومن الممكن تصوّر محاولة أردوغان تأجيل الانتخابات إلى ما بعد الموعد النهائي باستخدام قبضته على المؤسسات الرئيسية مثل “المجلس الأعلى للانتخابات”، وهو الهيئة الوطنية للإشراف على الانتخابات. ففي آذار/مارس 2019، أمر أردوغان هذا المجلس بإلغاء انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول التي خسرها مرشحه. ووسط ضجة كبيرة، فاز مرشح المعارضة في الانتخابات التالية في حزيران/يونيو من ذلك العام، ولكن هذه المرة بهامش أوسع. ومن المؤكد أن “المجلس الأعلى للانتخابات” ليس مخولاً دستورياً بتأجيل الانتخابات الوطنية إلى ما بعد 18 حزيران/يونيو، وقد يتردد أردوغان الآن في السعي بقوة وراء هذا الخيار نظراً للمعارضة العامة الشرسة التي برزت عندما طرح حليف سابق له الفكرة في 13 شباط/فبراير. وحتى لو تجاوز الدستور بطريقة ما، فقد يكون الناخبون غاضبين بما يكفي من تحركاته المناهضة للديمقراطية لإذلاله مجدداً، كما فعلوا في حزيران/يونيو 2019.
أردوغان قد يمدد، بل قد يوسع، حالة الطوارئ
في 7 شباط/فبراير، أعلنت الحكومة حالة الطوارئ في المقاطعات العشر التي ضربها الزلزال، فعلّقت العديد من الحقوق والحريات من أجل تسهيل جهود الإنقاذ/الإغاثة وتمكين وكالات إنفاذ القانون من مكافحة النهب. وستنتهي حالة الطوارئ في 7 أيار/مايو، أي قبل انتخابات حزيران/يونيو المحتملة. ولكن تطورات الأيام المقبلة قد تشجع أردوغان على تمديدها.
وتشير التقارير الحالية إلى احتمال طمر عشرات الآلاف من الضحايا الإضافيين تحت الركام. ولوضع الأرقام في نصابها الصحيح، من المرجح أن تتجاوز الحصيلة النهائية للقتلى بكثير حصيلة القتلى في حرب الاستقلال التركية قبل قرن من الزمن، عندما فقد أكثر من 37000 شخص حياتهم. وعند انتهاء جهود الإنقاذ رسمياً أو بشكل أساسي في الأيام القليلة المقبلة، ستكون الحصيلة قد ارتفعت بشكل كبير، مما يترك للجمهور التركي والمجتمع الدولي الأوسع المهمة الجسيمة المتمثلة باستيعاب التداعيات الكاملة للكارثة.
وفي تلك المرحلة، سيخضع أردوغان للمزيد من التدقيق على خلفية استجابة حكومته البطيئة وغير المنسقة للزلزال. كما سيواجه انتقادات بشأن طفرة البناء الوطنية التي طبعت فترة حكمه الطويلة. فقد ظهرت العديد من الصور المقلقة من الجنوب الشرقي من البلاد منذ وقوع الكارثة، مثل تلك التي تُظهر مبانٍ سليمة تقف بجانب مبانٍ سكنية منهارة بالكامل. ولا شك في أن هذه الصور ستدفع العديد من المواطنين الأتراك إلى إثارة تساؤلات حول التقارير المنتشرة على نطاق واسع حول مخالفات قوانين البناء وانتهاكات تقسيم المناطق الحضرية المرتبطة بالفساد، فضلاً عن العلاقات الحكومية المشبوهة مع شركات البناء.
ورداً على هذه الضغوط، سيلجأ أردوغان على الأرجح إلى رواية “القوة القاهرة”، مستخدماً سيطرته على ما يقدر بـ 90 بالمائة من وسائل الإعلام التركية لإقناع المواطنين بأنه لم يكن ممكناً تجنب حصيلة القتلى المرتفعة نظراً لحجم الزلزال. وبدلاً من ذلك، أو بالإضافة إلى ذلك، قد يحاول إلقاء اللوم على شركات البناء الصغيرة، مشدداً على الإهمال الفردي لإعفاء حكومته من المسؤولية الكبرى. ففي 12 شباط/فبراير، على سبيل المثال، ألقت الشرطة القبض على العديد من المشتبه بهم “الذين تم تحديدهم كمسؤولين عن انهيار بضع آلاف من المباني”.
وقد يجد أردوغان أيضاً أنه من المناسب تمديد حالة الطوارئ في المقاطعات المتضررة من الزلزال خلال فترة الانتخابات، مما يحد بشكل كبير من حرية التجمع وتكوين الجمعيات والتعبير والإعلام لما يقرب منسدس سكان البلاد. وبالإضافة إلى القيود الوطنية المفروضة على الحرية والتي كانت حكومته قد فرضتها أساساً قبل الكارثة، فمن شأن حالة الطوارئ أن تجعل الحملة غير حرة وغير عادلة بوضوح في تلك المقاطعات العشر، مما يمنحه أفضلية في صندوق الاقتراع. وفي الأسابيع السابقة، أظهرت استطلاعات الرأي أن كتلة المعارضة المعروفة بـ “طاولة الستة” تتنافس بقوة شبه متوازية مع تحالف أردوغان، وبالتالي قد يميل أردوغان بشدة إلى قلب التوازن من خلال حالة الطوارئ. وإذا اندلعت اضطرابات أو احتجاجات على المستوى الوطني، فقد يوسع حتى حالة الطوارئ لتشمل الدولة بأكملها.
تركيا تدخل في المجهول
في الوقت الحالي، من السابق لأوانه تقييم المسار السياسي المحتمل لتركيا بعد الزلزال، نظراً لأن النطاق الكامل للدمار وعواقبه لن تتضح لبعض الوقت. ومع ذلك، إذا زاد عدد القتلى المعلن بشكل كبير في الأيام المقبلة، فقد يقلب الديناميكيات المحلية وينقل البلاد إلى مضمار سياسي مجهول. وحتى الآن، لم يعترف أردوغان علناً بهذا الخطر، بل استخدم العديد من خطاباته بعد الزلزال لتوبيخ المواطنين على خلفية نشرهم “أخبار مزيفة وتحريفات“. وفي المقابل، أصر كمال كيليتشدار أوغلو، زعيم “حزب الشعب الجمهوري” المعارض، على رأيه، حيث اعترف بالمصيبة ككارثة وطنية ووعد بإنهاء الفساد الذي أدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا. وبالتالي، من المرجح أن تهيمن على الفترة التي تسبق الانتخابات نقاشات متعلقة بسير جهود الإغاثة من الزلزال، وسرد دقيق للدمار وحصيلة القتلى، ومستوى مسؤولية الحكومة عن هذه الخسائر، مع تصدي أردوغان بقوة لأي انتقاد.
سونر چاغاپتاي
معهد واشنطن