لجوء بعد لجوء، هذه حال كثير من السوريين في تركيا الذين يواجهون اليوم تحديات ما بعد الزلزال المدمر في 6 فبراير/ شباط الجاري، باعتبار أن الدمار الأكبر شمل ولايات تركية يتواجد السوريون بكثافة فيها، ما ضاعف آلامهم، وأعادهم فعلياً إلى نقطة الصفر.
الزلزال الذي ضرب جنوبي تركيا وجعل جزءاً كبيراً من منازلها ومبانيها غير صالح للسكن، دفع عدداً من السوريين إلى البحث عن رحلة لجوء جديدة داخل تركيا وربما خارجها، خاصة أولئك في ولاية هاتاي التي تعد بين أكبر الولايات التي يتواجد فيها سوريون بنى بعضهم حياة جديدة فيها قبل سنوات، ونفذوا أعمالاً تجارية بالتزامن مع استقرار أبنائهم في مدارس وجامعات.
وتتطلب هذه الحياة الجديدة أيضاً تخطي الناجين من الزلزال الصدمات المتكررة، واستجماع ما يتيسّر من القوة للانطلاق في رحلة تجديد الاستقرار، لتكون رحلة من لجوء إلى لجوء.
وفي ولاية هاتاي تؤكد المشاهد التي تنقلها محطات التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي أن منازلها باتت غير صالحة للسكن، ما يجعل مئات آلاف من سكانها، بينهم سوريون، مجبرين على المغادرة إلى أماكن أكثر أمناً، علماً أن الجرحى والمصابين نقلوا أيضاً إلى ولايات أخرى، في حين انهارت البنى التحتية وجميع مقومات الحياة في الولاية، فلا ماء ولا كهرباء ولا متاجر.
ويتحدث عدد من السوريين في هاتاي لـ”العربي الجديد” عن استعدادهم لتنفيذ رحلة لجوء جديدة إلى مناطق أخرى، بعدما باتت مناطق المدينة غير صالحة للسكن، علماً أنهم أقاموا سنوات طويلة فيها بسبب شعورهم بأنها قريبة من بلدهم، وقدرتهم على التحدث بأريحية مع أهلها الذين يجيدون اللغة العربية. وبالنسبة إلى بعضهم كانت هاتاي محطة ثانية أو ربما ثالثة لآخرين نزحوا من مناطقهم وقراهم وبلداتهم بسبب الحرب في سورية.
بالتأكيد بعيداً عن الجنوب
يخبر يحيى الشغري (58 عاماً) “العربي الجديد” أنه ينوي الرحيل إلى ولاية جديدة في تركيا بعدما مكث 7 سنوات في أنطاكيا، ويقول لـ”العربي الجديد”: “نجينا بأعجوبة من الزلزال. خلال لحظات كنت في الشارع حافياً وبلباس النوم. وبعدما تلقيت الصدمة عدت إلى المنزل وارتديت ما منحني الدفء تلك الليلة وحماني من المطر، وقد وضعت حذائي بلا جوارب، وجلبت بعض الأموال من المنزل، وبقيت مع زوجتي وابنتي في السيارة خلال اليومين التاليين، ثم تعبنا وشعرنا ببرد شديد فانتقلنا إلى بلدة يايلاداغي الجبلية الحدودية مع سورية حيث يعيش بعض معارفنا، علماً أن هذه البلدة استهدفها الزلزال بقوة لكنها لم تشهد دماراً كما في أنطاكيا، وقد استطعنا العثور على بعض الراحة فيها والنوم والتقاط الأنفاس، في وقت استعدنا فيه ذكريات آلام تلك الليلة التي عشنا تجربة قاسية فيها لا يمكن أن ننساها بسهولة وسرعة. وحالياً نحاول وضع خطة جديدة للرحيل”.
يتابع: “حين امتدت الحرب إلى منطقتنا في سورية، لجأنا إلى تركيا واستقرينا مع أقرباء لنا في أنطاكيا، وأطلقنا حياتنا من جديد، وكانت أمورنا وأعمالنا مستقرة، وشعرنا بسعادة في أنطاكيا التي تشبه سورية ويتكلم أهلها اللغة العربية ما سهل أمورنا، لكن بعدما باتت المدينة غير قابلة للسكن أصبح الرحيل أحد الخيارات المرّة، ونحن نفكر في الانتقال إلى إسطنبول، ونحاول إقناع باقي أقاربنا بالذهاب وبدء حياتنا وإعادة تأسيس أعمالنا من موقع جديد سيكون بالتأكيد بعيداً عن الجنوب”.
إلى أين؟
وكانت السلطات التركية سمحت بعد الزلازل بانتقال السوريين إلى ولايات أخرى من دون الحصول على إذن للسفر بخلاف ما يطلب من السوريين في الحالات العادية. واستثنى هذا القرار ولاية إسطنبول، لكن يمكن أن ينتقل حاملو الجنسية التركية إلى أي مكان من دون نيل إذن سفر.
وأمرت الحكومة الخطوط الجوية التركية التابعة لها بنقل الناس مجاناً من المناطق المنكوبة وإليها من أجل تسهيل وتسريع عملية الخروج من هذه المناطق من جهة، ومن جهة أخرى تأمين انتقال المتطوعين والفرق.
بدوره، يؤكد اللاجئ السوري عمر أبو الحسن (53 عاماً)، في حديثه لـ”العربي الجديد”، رغبته في الانتقال إلى منطقة أخرى وتنفيذ رحلة لجوء جديدة داخل تركيا، ويقول: “دهمنا الزلزال حين كنا نخلد للنوم فهربت مع زوجتي وأولادي إلى الشارع حين كان يهطل المطر في شكل غزير، ثم تنقلنا مثل التائهين في المدينة قبل أن ننتقل إلى مكان آمن ليلاً. وعندما التقطنا شيئاً من أنفاسنا بدأنا نفكر بما حصل كأنه خيال أو عالم أحلام”.
يضيف: “تحركنا بعد يومين وسط مجموعة من الأسئلة الصعبة بينها ما الحل وأين المفر؟ فالواقع فرض علينا وضع خطة للتعامل مع الواقع الجديد فما قبل الزلزال ليس كما بعده. توقف الزمن وبدأ زمن جديد يتطلب رحيلاً جديداً بعد 10 سنوات من اللجوء والإقامة في ولاية هاتاي، لكن إلى أين”.
ويشدد على أن “عملية اللجوء الجديدة لن تكون سهلة، خاصة بعدما أسسنا حياة جديدة واستقر أبنائي في المدرسة، لكن مدينة أنطاكيا لم تعد صالحة للسكن، ولا بديل إلا الرحيل، لذا نبحث عن الخيارات الأفضل لنا، واحتمال الانتقال إلى ولاية قريبة أم بعيدة. حان وقت تنفيذ لجوء جديد، ودقت ساعة الرحيل، وقد يكون اللجوء إلى دولة أخرى بين الخيارات المطروحة”.
وفي مؤتمر صحافي عقده الجمعة الماضي، أعلن نائب الرئيس التركي فؤاد أوكطاي أن الحكومة تحث المواطنين على الخروج من مناطق الزلازل بأسرع وقت من أجل استكمال عمليات الإنقاذ من جهة، ومن جهة أخرى لتهيئة الظروف الملائمة لتنفيذ مراحل لاحقة تشمل تخطيط مناطق المدن المنكوبة مجدداً وعمليات البناء”. ولفت إلى أن نحو 200 ألف شخص غادروا مناطق الزلازل حتى الآن.
أيضاً أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الجمعة الماضي أن “الحكومة ستتكفل بدفع أجور سنة كاملة لأي منزل يرغب السكان المنكوبين في استئجاره بولايات أخرى حتى إنجاز إعادة إعمار مناطق الزلازل، كما ستدفع أجور وتكاليف الانتقال”. وتعهد باستكمال المساكن الجديدة خلال عام واحد، على أن تكون على شكل مبانٍ ذات هندسة عمرانية أفقية وليست عمودية، أي مبانٍ ذات طوابق قليلة تناسب طبيعة المنطقة الزلزالية، وقد أعطيت تعليمات للوزارات المعنية بالاستعداد لتنفيذ هذه المشاريع”.
تجربة قاسية جداً
وتدل تصريحات المسؤولين الأتراك بوضوح على أن الخطة المنشودة ستشمل إجلاء جميع المقيمين من المناطق المنكوبة تمهيداً لإطلاق عمليات إعادة الإعمار، ما يشكل اعترافاً ضمنياً بأن المدن المنكوبة باتت غير صالحة للسكن.
ويؤكد محمد العلي (33 عاماً) الذي يقيم في أنطاكيا منذ 9 سنوات ويعمل في التجارة، قبل أن ينهار منزله بسبب الزلزال وينتقل إلى الإقامة في سيارته لـ”العربي الجديد” أنه محتار من أمره، وما زال يتجوّل بسيارته ليقضي بعض الأعمال ويجلب احتياجات، وينام مع زوجته وأولاده داخلها في أماكن بين أنطاكيا وبلدة يايلاداغي. ويقول: “عشنا تجربة قاسية جداً جعلتنا نحمد حالنا كثيراً باعتبارنا بقينا أحياء، علماً أننا فقدنا عدداً من أقاربنا، وقد أجرينا مراسم دفن بعضهم في حين ما زلنا لا نعرف مصير آخرين. حالياً نريد الخروج من كابوس الزلزال في أسرع وقت، ونخطط للرحيل إلى مكان جديد قد يكون ولاية بورصة”.
يضيف: “ما يؤخر خروجي وجود أقارب لي تحت الأنقاض، وأنا أنتظر استكمال رفعها لتحديد مصيرهم، لكنني اتخذت قرار تنفيذ رحلة لجوء جديدة لأنه لا يمكن أن أعيش في هذه المدينة بمشاعر متناقضة، فبعدما مرّ عقد على العمل والإقامة فيها، أضرّت كارثة الزلزال بنا في شكل كبير، ما يجعلنا نرغب في تجاوزها وبدء حياة جديدة”.
ويبدو أن الحظ العاثر ما زال يلاحق عدداً كبيراً من السوريين، فبعدما هربوا من ويلات الحرب في بلدهم وأسسوا حياة جديدة ضربتهم كارثة زلزال اعتبر بين الأكبر في المنطقة والعالم، لذا من الواضح أن رحلة اللجوء إلى الجنوب التركي لم تكن الأخيرة بالنسبة إليهم، بل محطة على درب الاستقرار النهائي.
العربي الجديد