بمشاركة عشرات من رؤساء الحكومات وممثلي المنظمات الدولية والأخرى غير الحكومية والمئات من الاختصاصيين والقادة الحاليين أو السابقين في شتى الميادين التي تتصل بالسياسة والأمن والاقتصاد والإعلام والبحوث، انعقد «مؤتمر ميونيخ للأمن MSC في دورته التاسعة والخمسين وقد هيمنت عليه مسبقاً المشكلات المعقدة التي نجمت عن الاجتياح الروسي لأوكرانيا، والتي تمسّ مباشرة مسائل الطاقة والغذاء والتسلح وأخطار اندلاع مواجهات أخرى بين روسيا من جهة، وأمريكا وأوروبا والحلف الأطلسي من جهة ثانية.
وإذا كانت مفارقة ذات دلالة خاصة قد شاءت أن تنعقد الدورة الـ58 لمؤتمر ميونيخ على أعتاب التهديدات الروسية بغزو أوكرانيا، فإن المفارقة ذاتها تتواصل مع انقضاء سنة على الاجتياح، ثم ظهور كابوس جديد يخص التوتر مع الصين في ميادين تبدو للوهلة الأولى متبلورة حول تأويل وظائف المناطيد في سماء أمريكا وكندا مثلاً، ولكنها في واقع الأمر تتسع وتتعدد على نحو دؤوب لتشمل عناصر الأمن الدولي بمعظمها تقريباً. وليس بعيداً عن هذه الأجواء ما تشهده الكوريتان من توتر راهن، يأخذ شكل المناورات المشتركة الأمريكية ـ الكورية الجنوبية مقابل تكثيف التجارب الباليستية في كوريا الشمالية، ولكنه في المضمون يتقاطع مع تحالفات البلدين الأمريكية والأطلسية مقابل الروسية والصينية.
رسمياً يعلن مؤتمر ميونيخ أنه منصة دولية فريدة لإدارة النقاشات على مستويات عليا حول التحديات الكبرى الأكثر إلحاحاً وأهمية في السياسات الخارجية والأمن الدولي، كما يوفّر ميداناً للمبادرات الدبلوماسية وللحوارات البناءة التي يمكن أن تخفف من حدّة التوتر وتقود بالتالي إلى تسويات سلمية. وعلى شاكلة كل إعلان نوايا بصدد مؤسسات كونية مماثلة، تكون لغة البيانات في واد والأفعال على الأرض في واد آخر ليس مختلفاً فحسب، بل يصل إلى درجة التناقض وإفراز النتائج العكسية.
والمثال الأبرز في هذا المضمار هو أن روسيا سبق أن وقعت على برنامج «الشراكة من أجل السلام» الذي اقترحه الحلف الأطلسي في سنة 1994 على جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، وبينها جورجيا وأوكرانيا وأرمينيا وبيلاروسيا وصربيا، فهل حال انضمام موسكو دون سيطرة الكرملين على جورجيا أو اجتياح أوكرانيا؟ ومن جانب آخر، هل كانت توصيات مؤتمرات ميونيخ للأمن، التي تتعاقب منذ العام 1963، قد منعت الغزو الأمريكي لأفغانستان أو العراق؟ وهل نجحت مرة واحدة في ردع دولة الاحتلال الإسرائيلي عن ممارسة العدوان والاستيطان والاستهانة بعشرات القرارات الأممية، التي لا تخرج في جوهرها الإجمالي عن هدف توطيد السلام والأمن؟
على صعيد آخر يخصّ التكتلات ذات الانسجام العالي داخل مجموعات مؤتمر ميونيخ، هل أفلحت توصيات النوايا الحسنة في التخفيف من حدة التنافسات أو حتى الصراعات في ميادين حروب التجارة والاحتكار والطاقة والتكنولوجيا وبسط النفوذ والهيمنة ضمن المجموعة الأوروبية، أو بينها مجتمعة ومنفردة وبين الولايات المتحدة؟ وفي الأساس، هل تتوافق هذه الأطراف على مفهوم متقارب للأمن الدولي ينطلق أولاً من مقتضيات عالمية وكونية وليس من المصالح الخاصة للأقطاب والقوى الكبرى؟
الإجابات تأخذ صيغة النفي بالطبع، على غرار البون الشاسع إلى درجة انعدام الصلة أحياناً، بين أقوال المؤتمرات وأفعال المؤتمرين.
القدس العربي