ثمة فرق كبير جدا بين مشاهدة المدن المدمرة في تركيا وسوريا عبر الشاشات، وزيارتها ورؤيتها بالعين المجردة. فالمشاهد التي رأيتها أثناء جولتي في المدن التركية؛ هاتاي وقهرمان مرعش وأدي يامان، كان مفجعا بالفعل. لقد تحولت هذه المدن إلى أنقاض، وكأنها تعرضت لقصف بقنبلة ذرية مثلما حدث في مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين. وبسبب كثافة الهزات الارتدادية في المنطقة، اضطر غالبية السكان للنزوح إلى مدن أخرى نظرا لقسوة الظروف الشتوية، وعدم بقاء أماكن سكنية كافية تأويهم. كان العاملون في منظمات المجتمع المدني ورئاسة إدارة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد) والهلال الأحمر التركي وفرق الإنقاذ الأجنبية، ينشطون في مختلف أنحاء هذه المدن الثلاث الأكثر تضررا من الزلزال، ويبذلون قصارى جهدهم لمساعدة الضحايا، وكان الأمر كما لو أن جميع الأشخاص اللطفاء في تركيا والعالم قد اجتمعوا هنا.
لكن الأمر كان مختلفا جدا في منصات التواصل الاجتماعي، وبعض وسائل الإعلام، حيث سعت بعض الجهات إلى نشر إشاعات وأكاذيب عن كثرة السرقات في مناطق الزلزال، ووجود تمييز أثناء توزيع المساعدات، وكان هناك تحريض واضح ضد السوريين، لا يمكن لأي شخص موجود في تلك المنطقة أن يصدق تلك المزاعم، التي يتم تضخيمها على مواقع التواصل الاجتماعي إلى هذا الحد. بالطبع كنا نسمع في بعض الأحيان من أفراد الشرطة أن هناك حالات سرقة حدثت في هاتاي، لكنها لم تكن منتشرة بالدرجة التي تم الترويج لها إعلاميا. علاوة على ذلك، كان التمييز العرقي والديني في توزيع المساعدات مستحيلا، لأن الناس من جميع الأفكار كانوا يعملون في منظمات الإغاثة التابعة للدولة، وكانت منظمات المجتمع المدني من جميع الانتماءات حريصة على الوصول إلى الضحايا الناجين من الزلزال. والشيء المثير للاهتمام في هذه الأخبار هو اقتصار الحديث عن هذه الأفعال على مدينة أو اثنتين فقط. كان عدد السوريين الذين فقدوا حياتهم جراء الزلزال في تركيا أكثر ممن توفوا داخل الأراضي السورية، ورأى سكان المناطق التركية المتضررة كيف سارع السوريون الناجون لإنقاذ الناس العالقين تحت الأنقاض، وكان من الجدير رؤية التضامن بين الشعبين وتقاسمهم لآلامهم المشتركة عقب الكارثة. ومع ذلك، انصب اهتمام الصحافة الأجنبية بشكل خاص على التصريحات المثيرة للاشمئزاز لرئيس «حزب النصر»، أوميت أوزداغ، الذي يتبنى خطابا عنصريا متطرفا. وانتقد سكان المناطق المتضررة بشدة تلك التصريحات التي لا يحظى بقبول لدى الشعب التركي. زعم الرجل العنصري والفاشي أوزداغ أن الزلزال وقع بسبب السوريين، حتى إنه قال في تصريحاته الأخيرة إن المصائب التي حلت بتركيا سببها التقارب مع العرب كثيرا. علينا أن نعلم أنه على غرار اللصوص الذين يظهرون بعد وقوع الكوارث الطبيعية، هناك أيضا لصوص يتلاعبون بعقول البشر من خلال نشر الأخبار الكاذبة على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن تصدير أخبار بعض اللصوص أو التستر على الأعمال الإغاثية الميدانية الرائعة بواسطة زعيم حزب فاشي، هو أمر مرعب حقا. ما يجب القيام به بدلا من ذلك هو التركيز على الجهود الحثيثة التي يبذلها نحو 350 ألف إنسان من تركيا وجميع أنحاء العالم لإغاثة الناجين من الزلزال، لذلك يجب أن يفضل الناس الوصول إلى الأخبار الحقيقية أو الذهاب إلى أرض الحدث والاطلاع على ما يجري شخصيا. في غضون ذلك، أدت الزلازل الأربعة الكبيرة إلى تحريك الدبلوماسية أيضا، فقد أرسلت 88 دولة مساعدات مباشرة إلى تركيا لإغاثة الضحايا، وبلغ عدد الأجانب المشاركين في عمليات البحث والإنقاذ والمساعدة 11302 ونحن نشكر الدول المساهمة والمجتمع الدولي على ذلك. كانت قطر في مقدمة الدول التي هبّت لإرسال المساعدات إلى الجانب التركي عقب الزلزال، وأميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، هو أول زعيم زار تركيا بعد الكارثة، وكل ذلك ساهم في جذب محبة كبيرة من الشعب التركي. وأصبح المواطنون يرددون «قطر عزيزتنا»، ويمكنكم أن تلمسوا ذلك في مختلف المدن التركية. حرص أمين عام حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ووزراء خارجية اليونان وإسرائيل وأرمينيا على زيارة تركيا شخصيا، وقبل يومين استضافت البلاد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، للاطلاع على الأضرار الناجمة عن الكارثة، وسوف يلحق بكل هؤلاء وزيرا الدفاع والخارجية الألمانيان.
العديد من الخبراء في تركيا يؤكدون ضرورة استخدام «دبلوماسية الزلازل» لخفض التوترات وتحسين العلاقات الثنائية مع الدول الأخرى
أظهرت تركيا تضامنا وطنيا كبيرا في الداخل، وتصدرت «دبلوماسية الزلزال» المشهد عقب حصولها على دعم دولي كبير واستضافتها لمسؤولي الدول الأخرى في أجواء إيجابية. وكانت مطالبة وزير الخارجية اليوناني بالدعم أثناء زيارته لتركيا وبروكسل تطورا لافتا بالنسبة إلى العلاقات التركية – اليونانية، وقد ذكرتنا بالتحسن الذي شهدته العلاقات عقب زلزال مرمرة عام 1999. ورأى بعض الخبراء أن حقبة جديدة يجب أن تبدأ بـ»دبلوماسية الزلازل» في العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي واليونان.
خلاصة الكلام؛ العديد من الخبراء في تركيا يؤكدون ضرورة استخدام «دبلوماسية الزلازل» لخفض التوترات وتحسين العلاقات الثنائية مع الدول الأخرى. ويدعو هؤلاء إلى بذل الجهود لتحقيق مكاسب ملموسة من الأجواء الإيجابية الحالية في العلاقات مع أرمينيا وإسرائيل واليونان. كما يشددون على أهمية التحلي بالإرادة وتكثيف الدبلوماسية بشكل متبادل لحل الخلافات. ويحذر البعض من أن التضامن في حالات الكوارث سيستمر لفترة من الوقت، وأن التضارب البنيوي للمصالح الوطنية لا يمكن حلها بصورة فورية وسريعة، وإنما يجب خوض مسار حازم في المفاوضات بين الأطراف المعنية. ومن المؤكد أن هناك عوامل فعالة ومؤثرة في إدارة عملية التطبيع مع البلدان الثلاثة المذكورة بطريقة ناجحة. ولا يمكن لتركيا في خضم التطورات الحالية أن تهمل مسار السلام بين أذربيجان وأرمينيا. أمّا مسار التطبيع مع إسرائيل، فإنه يركز على قضايا المستوطنات وملف القدس على وجه الخصوص. ولا يزال موضوع تسليح الجزر في بحر إيجة وتوسيع المياه الإقليمية إلى 12 ميلا على رأس القضايا الخلافية مع اليونان. وبالتالي، يجب بذل الجهود لضمان أن تلعب «دبلوماسية الزلزال» دورا إيجابيا في إدارة هذه القضايا وحلها إذا أمكن.
القدس العربي