مع مرور يوم غد الجمعة يكون قد مضى عام على الغزو الروسي لأوكرانيا. طرأت تغيرات كثيرة في أوروبا، دول في القارة جُرت عنوة إلى العسكرة بعد أن غادرتها عقب الحرب العالمية الثانية، وانصرفت لبناء اقتصاداتها والمنافسة في حقول التكنولوجيا. هذا التحول، الذي ترافق مع تحولات أخرى، تتصل بالتضخم والأزمات الاقتصادية، يبدو مفتاحيا لفهم ما أحدثه بوتين، الذي أعاد إلى الواجهة الحرب كمفهوم كلاسيكي، جنودا ومدافع ودبابات وطائرات، ورصد ميزانيات ضخمة.
راهن بوتين على أن تتسبب أولوية الحرب، لدى الأوروبيين، بتقليص الإنفاق على التنمية والتعليم والدعم الاجتماعي، وسط أزمات اقتصادية خانقة، ما يفسح المجال لزيادة قاعدة اليمين، ومن ثم تغيرات في تركيبات الحكومات، تعود بالنفع عليه، وتوصل للحكم حلفاء له، أو أقله، توصل خصوما غير جديين. غير أن هذه الاستراتيجية ظهرت عديمة الفائدة للكرملين، حين تحققت في إيطاليا، ليس بسبب بوتين، أو تداعيات غزو أوكرانيا، بل لأسباب داخلية عديدة، فاليمين هناك انضبط بتحالفات وبتوازنات حزبية، وبعلاقة مع الاتحاد الأوروبي، جعلاه، منسجما مع موقف بقية خصوم روسيا تجاه غزوها لأوكرانيا.
يخشى الغرب في حال هزيمة بوتين بشكل كامل، دخول روسيا في مسارات، من غير المستبعد، أن تنتج شعبويا أسوأ منه، لكن بدرجة أعلى يخشى من انفلات السلاح النووي
لقد كشفت تجربة إيطاليا، أن صعود اليمين لاسيما المتطرف، للحكم في بلد غربي، لا يعود بالضرورة بالنفع على بوتين، في ظل قواعد دستورية وتقاليد سياسية وبرلمانية وحزبية، تكبح جنوح هذا اليمين وتضبطه ضمن توازنات دقيقة وسياسة خارجية مرتبطة بالاتحاد الأوروبي. الانتخابات النصفية الأمريكية كانت أيضا محطة من محطات رهانات بوتين، الذي انتظر صعود جديد للترامبية الشعبوية، المتلاقية معه في مسعى ضرب المؤسسات الديمقراطية، غير أن النتائج جاءت، عكس ذلك، والتصويت لم يكن فقط على أساس اقتصادي، بل صوّت الأمريكيون انطلاقا من عناوين الإجهاض والخوف على الديمقراطية، وكانت النتيجة خفوت وهج الظاهرة الترامبية، من دون نهايتها طبعا.
مع ذلك، أساس الرهان البوتيني، هو ضرب الديمقراطيات الغربية من داخلها، عبر التأثير في نتائج الانتخابات والتلاعب بها بمساعدة جيوش افتراضية كاذبة، أو مد قوى اليمين بدعم مالي، وأيضا، تنفيذ عمليات غزو إلكتروني. إعادة أوروبا إلى الحرب الكلاسيكية يندرج في هذا السياق، إذ إن الحرب بنتائجها وتداعياتها، هي المناخ الأنسب، لاستراتيجية الكرملين الخبيثة، التي سبق أن بدأت قبل الغزو بسنوات.
مقابل، الاستدراج الروسي للغرب إلى الحرب الكلاسيكية، لقطف ثمار أزماتها بصعود اليمين واستمرار ضرب الديمقراطيات، تبدى الحرص الغربي على تطوير مفهوم الهزيمة، بحيث تظل تداعياتها، حال مني بها بوتين، بأقل الأضرار على روسيا نفسها، وهذا ما تسهل ملاحظته، من كلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أيام إذ قال، إن بلاده «لا تريد سحق روسيا».
ثمة تنبه غربي، في هذا السياق، إلى اعتبارين، الأول، عدم تكرار تجربة هزيمة الاتحاد السوفييتي، عقب الحرب الباردة، وترك روسيا لتخبط طويل سهل المناخات لوصول بوتين للسلطة. والثاني، امتلاك موسكو لسلاح نووي، ما يثير مخاوف من أي هزيمة ساحقة لبوتين، ومن هنا جاء تحذير الدبلوماسي الأمريكي هنري كيسنجر، من أن رغبة البعض في تفكيك روسيا قد تؤدي إلى فوضى نووية. يخشى الغرب إذن حال هزيمة بوتين بشكل كامل، دخول روسيا في مسارات، من غير المستبعد، أن تنتج شعبويا أسوأ منه، لكن بدرجة أعلى يخشى من انفلات السلاح النووي. وعليه، لا بد من أن تكون هزيمة الرئيس الروسي ناقصة، تحد من جموحه الإمبراطوري انطلاقا من أوكرانيا، وتستنزف قواه العسكرية، من دون تغيرات تذكر في روسيا نفسها.
هكذا يسعى بوتين لتوريط الغرب بحرب كلاسيكية شاملة، ولا يمانع توسعها بحيث تنضم الصين إليها، فيما لا يريد الغرب هزيمة بوتين، هزيمة كاملة. هذه هي معادلة الصراع الصعب بعد عام على غزو أوكرانيا.
القدس العربي