لم يكن الخبر المهم في خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السنوي الذي استمر حوالي ساعتين الثلاثاء هو إعلان روسيا تعليق معاهدة نيو ستارت للحد من الأسلحة النووية، بل المهم كان الرسالة الضمنية التي تفيد بأن الحرب الروسية ضد أوكرانيا لن تنتهي قريبا، وأنه على الروس التعايش مع الحرب التي قال عنها بوتين إنها تمثل فرصة اقتصادية لهم تفوق التضحيات المطلوبة منهم.
واختار بوتين أن تكون رسالته متزامنة مع الذكرى الأولى لبدء الحرب في أوكرانيا ليشير إلى أنه ليس لديه فكرة عن كيفية الفوز بالحرب، لذلك يفضل استمرارها لفترة أطول ما دام ليس لديه خيارات أفضل.
ويقول المعارض الروسي ألكسي نافالني إن روسيا ستخسر الحرب. لكن لا نافالني ولا أحد في العالم يعرف كيف ستخسر روسيا الحرب، تماما كما أن بوتين لا يعرف كيف ستكسبها.
وبدا الرئيس الروسي مصمما على المضي قدما لتحقيق ما هو أبعد من أهداف “العملية العسكرية الخاصة” التي أطلقها في 24 فبراير من العام الماضي، مؤكدا في كلمة مقتضبة أمام مهرجان وطني كبير بمناسبة “يوم المدافع عن الوطن” في ملعب بالعاصمة موسكو، أن بلاده تحارب حاليا في أوكرانيا من أجل “أراضيها التاريخية”، ما اعتبره مراقبون إفصاحا عن الرغبة في الاستيلاء على المزيد من الأراضي الأوكرانية بعد ضم أربع مقاطعات في العام الأول للحرب.
وعلى الجانب الآخر أكد الرئيس الأميركي جو بايدن التزام بلاده بالدفاع عن “كل شبر” من أراضي حلف شمال الأطلسي ، خلال اجتماع له في بولندا مع تسع دول تمثل الجناح الشرقي للحلف وتتشاطر المخاوف من امتداد العملية العسكرية الروسية إليها.
وجاءت زيارة بايدن إلى بولندا عقب زيارة رمزية لم يعلن عنها مسبقا إلى أوكرانيا في خطوة قال مراقبون إن الهدف منها هو إعطاء دفعة معنوية لكييف مع حلول الذكرى السنوية لتعرضها للهجوم الروسي، والتأكيد على ثبات موقف واشنطن وحلفائها من استمرار الدعم طالما اقتضت الضرورة ذلك، مع الإعلان عن حزمة من المساعدات العسكرية الأميركية الإضافية بقيمة نصف مليار دولار.
ويرى محللون أن إصرار بوتين وبايدن على موقفيهما لم يخف مشكلات ربما تواجه الجانبين منذ أسابيع أو أشهر، فالرئيس الروسي يواجه انتقادات لعدم تطرقه إلى العثرات التي واجهت قوات بلاده في الحرب أو الخلافات التي طفت على السطح مؤخرا حتى مع رفاق الحرب كمجموعة فاغنر العسكرية.
وعلى الجانب الآخر حاول الرئيس الأميركي إبداء صلابة في الموقف الداعم لأوكرانيا، دون التطرق إلى الخلافات في صفوف معسكر الحلفاء وعدم وجود رؤية موحدة بشأن أفق الاستمرار في تزويد أوكرانيا بمختلف أنواع الأسلحة، متناسيا أنه نفسه خلال الفترة المقبلة ومع اقتراب موعد الانتخابات لن يكون بمقدوره التعامل بكرم زائد في مسألة إمداد أوكرانيا بالأسلحة في ظل تحفظ الجمهوريين.
وهنا يثار التساؤل المهم عن الطرف المستفيد من إطالة أمد الحرب بهدف استنزاف موارد الآخر، ومن ثم خسارته لحرب لم تقتصر تداعياتها على الطرفين المتحاربين أو حلفائهما بل تركت أثرا كبيرا على الاقتصاد العالمي ككل.
ولفتت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية إلى أن بوتين، في خطابه بشأن حالة الأمة، لم يبد أي مؤشرات على التراجع عن نهجه، بل استخدم الخطاب للكشف عن خطة لحرب طويلة، مشيرة إلى أنه وعد بتغيير نظام التعليم وسياسة العلوم والتكنولوجيا لمساعدة روسيا على تجاوز العقوبات الغربية.
ولفتت الصحيفة كذلك إلى إعلان بوتين الانسحاب من معاهدة نيو ستارت الجديدة للحد من الأسلحة النووية، “آخر اتفاقية قائمة للسيطرة على الأسلحة بين واشنطن وموسكو”.
كما ركزت صحيفة فايننشال تايمز على دفاع بوتين عن قراره الذي يقضي بغزو أوكرانيا وتعهده بتحقيق أهدافه من الحرب “خطوة بخطوة”، واتهامه للغرب باستخدام أوكرانيا أداة لتقويض روسيا.
ولم تفت الصحيفة البريطانية الإشارة إلى تزامن حلول الذكرى السنوية الأولى للحرب مع دخول الصين على الخط وتحذير وزير خارجيتها للغرب من “صب الزيت على النار” في أوكرانيا، وكذلك ذهاب كبير دبلوماسييها وانج يي إلى موسكو، في أول زيارة إلى روسيا يقوم بها مسؤول صيني بارز منذ بداية الحرب، “ما يلقي الضوء على تعزيز العلاقات بين رئيس روسيا ونظيره الصيني شي جينبينغ”.
لا أحد في العالم يعرف كيف ستخسر روسيا الحرب، تماما كما أن فلاديمير بوتين لا يعرف كيف ستكسبها
ونقلت الصحيفة عن المسؤول الصيني قوله عقب لقائه بوتين الأربعاء إن الجانبين سيعززان “الثقة السياسية المتبادلة والتعاون الإستراتيجي”، مشيرة إلى الدور الذي لعبته بكين في التخفيف من آثار العقوبات الغربية على موسكو بسبب الحرب.
ونبهت الصحيفة إلى التشكك الكبير الذي يبديه الغرب حيال ضلوع الصين في الصراع وتحذير وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مطلع الأسبوع الجاري من أن بكين “تدرس بجدية تزويد موسكو بأسلحة فتاكة قبيل هجوم جديد تستعد لشنه القوات الروسية”، معتبرة أنه “لا سبيل لإنهاء الحرب قريبا في أوكرانيا”.
إلا أن الصحيفة البريطانية نقلت في الوقت نفسه عن يو جي، الباحث البارز في معهد تشاتام هاوس للأبحاث ومقره لندن، قوله إن “وانج يي في تصريحاته لم يذكر عبارة ‘شريك بلا حدود’… هذا يعد تحولا إلى حد ما يظهر سعي بكين إلى الإبقاء على مسافة بينها وبين موسكو”.
وفي ظل مواقف متباعدة بعد 12 شهرا من الحرب، جاءت توقعات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش متشائمة إلى حد كبير حيث حذر من اتساع الصراع واستخدام الأسلحة النووية.
وأضاف “على مدار العام الماضي لم نشهد فقط تزايد المعاناة والدمار، بل أصبح من الواضح أيضا إلى أي مدى يمكن أن يصبح الأمر أسوأ. العواقب المحتملة لصراع متصاعد تشكل خطرا واضحا وقائما”.
وتابع “في الوقت نفسه سمعنا تهديدات ضمنية باستخدام الأسلحة النووية. إن ما يسمى بالاستخدام التكتيكي للأسلحة النووية أمر غير مقبول على الإطلاق. لقد حان الوقت للتراجع عن حافة الهاوية”، في إشارة إلى تهديد روسيا باستخدام جميع الأسلحة بما فيها النووية للدفاع عن أمنها القومي.
سلاح العقوبات
في محاولة لوقف الحرب الروسية – الأوكرانية وتقليص حجم موسكو اقتصادياً ومحاصرتها، لجأت الدول الغربية إلى العقوبات، إلا أن تلك العقوبات رغم الألم الذي سببته للروس لم تردع الرئيس الروسي عن الاستمرار في حربه.
وعلى الرغم من انسحاب العديد من الشركات الأجنبية من البلاد خلال الفترة الماضية، نجح الروس في استنساخ ماركات أخرى، فرأى العالم “بدائل عن ستارباكس وماكدونالد” وغيرهما من الشركات العالمية.
لكن لا شك أن الوضع على الأرض أكثر تعقيداً، إذ يشعر العديد من المواطنين بأنهم في “حرب باردة” ومحاصرون. ورغم ذلك، لم تكسر العقبات ظهر الكرملين، ولم توقف الحرب، وبالتالي لم تنجح.
واعتبر مايكل ماكفول، الأستاذ في جامعة ستانفورد والذي كان يدرس العقوبات، أن الهدف من العقوبات هو إنهاء الحرب”، مردفاً لكن “الحرب لم تنتهِ وهذا يعني أن العقوبات لم تحقق الهدف الذي حدد لها”.
إلا أن معظم دبلوماسيي ومسؤولي الاتحاد الأوروبي المشاركين في سياسة فرض العقوبات أجمعوا على أن الهدف لم يكن أبدًا، من الناحية الواقعية، دفع روسيا إلى سحب قواتها من أوكرانيا، بل إضعاف آلة الحرب من خلال حرمان بوتين من التمويل الذي يحتاجه.
وفي أحدث الأرقام والإحصاءات الرسمية تراجع إجمالي الناتج المحلي في روسيا بنسبة 2.1 في المئة عام 2022، ما يشير إلى وجود مقاومة فاقت التوقعات في وجه العقوبات الغربية الشديدة المفروضة على موسكو.
وفرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، آلاف العقوبات على روسيا منذ انطلاق عمليتها العسكرية في 24 فبراير من العام الماضي، طالت مختلف القطاعات والسياسيين والمسؤولين، من بينهم بوتين، فضلا عن رجال الأعمال الداعمين له.
ويشير ماكفول إلى أن بوتين لم يفكر في ما سيحدث في سوق الأوراق المالية في روسيا، ولم يهتم حتى بفاحشي الثراء المقربين منه الذين سيتضررون من هذه العقوبات، وإنما يهتم فقط بمكان وجوده في كتب التاريخ بعد 30 أو 40 عاماً من الآن، ولذلك كان من السذاجة الاعتقاد بأن العقوبات ستغير حساباته.
وأوضح سفير روسيا لدى الولايات المتحدة أناتولي أنتونوف، في بيان أنه كان من الصعب أن تراجع روسيا سياستها الخارجية تحت تهديد القيود، محذراً من أن الولايات المتحدة لن تكون بعيدة عن نتائج العقوبات عندما يشعر مواطنوها بعواقب ارتفاع الأسعار.
وتجاوزت روسيا إيرانَ وسوريا وكوريا الشمالية بـ14 ألف عقوبة لتصبح الدولة الأكثر تعرضا للعقوبات في العالم، وذلك في الذكرى الأولى لحربها على أوكرانيا في 24 فبراير 2022.
وفرضت الدول الغربية عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا بسبب حربها المستمرة ضد أوكرانيا، شملت العديد من المجالات مثل القطاع المالي والطاقة والنقل والإعلام والتكنولوجيا والسيارات والرياضة والتجارة.
الرئيس الأميركي جو بايدن يؤكد التزام بلاده بالدفاع عن “كل شبر” من أراضي حلف شمال الأطلسي
ووفق بيانات شركة “Castellum.ai” السويدية المتخصصة في رصد المخاطر المتعلقة بالعقوبات، فُرضت على روسيا 11 ألفا و327 عقوبة جديدة بعد 24 فبراير 2022، ليرتفع إجمالي العقوبات المفروضة عليها إلى 14 ألفا و22 عقوبة.
وحلت إيران في المركز الثاني بعد روسيا بـ4 آلاف و268 عقوبة، ثم سوريا بألفين و643 عقوبة، تبعتها كوريا الشمالية بألفين و133 عقوبة.
كما تخضع دول أخرى لعقوبات غربية مثل بيلاورسيا (1155) وفنزويلا (651) وميانمار (839).
وتصدرت الولايات المتحدة الدول الغربية بقرارات فرض عقوبات على روسيا، إذ فرضت عليها ألفا و948 عقوبة منذ 24 فبراير من العام الماضي.
وحلت سويسرا في المركز الثاني بـ1782 عقوبة، ثم كندا بـ1590 عقوبة، ثم بريطانيا بـ1390 عقوبة، فيما فرض الاتحاد الأوروبي على روسيا 1324 عقوبة.
وبلغ عدد الأفراد المدرجين في قائمة العقوبات نحو 9 آلاف و117 فردا، والكيانات ألفين و90 كيانا، كما استهدفت العقوبات 96 سفينة و24 طائرة روسية.
ولا يعني هذا أن العقوبات الغربية لن تلحق الضرر بالاقتصاد الروسي، فمن المؤكد أنها ستلحق بروسيا وصناعاتها ضرراً بالغاً كما يقول راجان مينون، مدير برنامج الإستراتيجية الكبرى في أولويات الدفاع الأميركية والخبير في معهد “سالتزمان” لدراسات الحرب والسلام في جامعة كولومبيا، لكنها لم تكن كافية لردع بوتين الذي قرر أن هجوماً كبيراً على أوكرانيا سيخدم غرضاً مهماً للأمن القومي الروسي، ومن غير المتوقع أن يتخلى عن أي منطقة يكسبها على حساب أوكرانيا.
العرب