لا يختلف كثيرون في أن عودة العراق إلى أرومته بين المتطلبات الأساسية لتحصين بغداد والأمن القومي العربي معاً، لكن قلة فقط من يتوقعون حدوث ذلك، نظير التغلغل الإيراني في كل دهاليز البلد العربي العريق بعد الغزو الأميركي 2003، بيد أن نهج السعودية الجديدة في هندسة التحديات والبحث عن الفرص في مكامنها، جعل ما كان مستحيلاً بالأمس يمكن تصوره اليوم بين بلدين كانت “الحدود بينهما أول خط فاصل يرسم في المنطقة في عام 1922″، نظير تشابك المصالح بينهما وسط حدود يتجاوز طولها 800 كيلو.
ولذلك استوقف التحول المفاجئ الباحث الأسباني خافير بوردون منذ 2015 فصاعداً بين بغداد والرياض، بوصفه “غير مسبوق بفضل التقاء مجموعة من العوامل بعضها لا ينفصم عن بعض، تصدر في خضمها المشهد الحوار حول الحدود المشتركة والمصالح”، لافتاً إلى أن الدولتين اهتدتا إلى أن الحدود التي لطالما كانت مصدر قلاقل الدول في المنطقة، يمكن أن تصبح بدلاً من ذلك “محفزاً للتعاون”، ومنجماً لفرص اقتصادية للفريقين، قدرها بنحو 100 مليار دولار على المديين المتوسط والبعيد، في ما لو تم توظيفها، طبقاً لحسبة متعارف عليها في البنك الدولي.
وأبرمت الحكومة السعودية والعراقية اتفاقاً أمنياً بينهما، خضع لنقاش وتداول لبضع سنين، في سياق عودة الجارتين إلى إحياء علاقاتهما السياسية والاقتصادية بعد عقود طغى فيها التوتر والجمود على المشهد منذ غزو صدام حسين الكويت في العقد الأخير من القرن الماضي.
وأعلن وزير الداخلية السعودي الأمير عبدالعزيز بن سعود بن نايف أن جلسة المباحثات التي عقدها مع نظيره العراقي الفريق أول ركن عبدالأمير الشمري في 19 فبراير (شباط) الحالي، أثمرت توقيع “مذكرة تفاهم للتعاون الأمني بين وزارتي الداخلية في البلدين”.
التحصين أولوية
وذكرت وكالة الأنباء السعودية (واس) أن القيادة السعودية كانت مهتمة بالاجتماع بين الوزيرين، وسط آمال بأن ينجح “ويسفر عن نتائج تسهم في حفظ وتعزيز الأمن في البلدين الشقيقين”، في وقت أكد فيه الوزير السعودي أن المباحثات “تأتي استمراراً لتعزيز التعاون الثنائي في جميع المجالات الأمنية والعمل المشترك”.
وأكد أن الاتفاق الجديد “يسهم في تطوير العمل الأمني وتفعيله والوصول به إلى تطلعات قيادة البلدين وشعبيهما، لتحقيق مزيد من الأمن والاستقرار والرخاء”.
وكان الوزير العراقي الشمري قدم إلى الرياض، على رأس وفد أمني تضم تخصصاته، أكثر الملفات التي اعتادت وسائل الإعلام إثارتها بوصفها أحد الشواغل الرئيسة للجهات الأمنية في الإقليم والجوار، مثل أمن الحدود وتجارة المخدرات والمؤثرات العقلية.
ولدى سؤال “اندبندنت عربية” الدبلوماسي السعودي الأسبق علي عواض عسيري عما يعنيه الاتفاق في بعده السياسي، أجاب “أي اتفاق أمني أو اقتصادي بين السعودية والعراق سيعزز الوضع الداخلي في بغداد ويشعر كل العراقيين سنة وشيعة بأن الحضن العربي هو حيث ينتمون حقاً”.
واعتبر أن “تحصين العراق من التدخلات الأجنبية ودعم وحدته واستقلاله هدف مشترك بين قيادتي البلدين، بالتالي فإن مثل هذا الاتفاق من شأنه أن يزيد بلداً عربياً وجاراً عزيزاً قوة وتحصيناً ليعود إلى مكانه الحقيقي في محيطه العربي والإقليمي”.
ويعتقد عسيري أن التقارب السعودي – العراقي الذي أصبح مدعوماً بمذكرة تفاهم ومجالس تنسيق واتفاقات عدة بين البلدين، خطوة متقدمة تحمل في جوهرها، “تحسين صلابة العراق وعدم تركه لإيران بتعزيز حصانته أمام أي تدخلات تؤثر فيه أو في جواره العربي”، مؤكداً أن ذلك سيفضي مع الوقت إلى “عودة العراق لموقعه العربي الحيوي، بما يفيده وجيرانه على حد سواء”.
جميع أشكال التعاون
ورأى الجانب العراقي في الاتفاق خطوة لافتة بوصفه الأول من نوعه بين البلدين العربيين الكبيرين منذ 40 عاماً، وفق ما أوردت وكالة الأنباء العراقية نقلاً عن الداخلية، التي أكدت أن مذكرة التفاهم الموقعة “شملت جميع أشكال التعاون الأمني وتبادل الرؤى وتفعيل العمل الأمني المشترك لما يضمن مزيداً من الأمن للجانبين العراقي والسعودي”.
ومع أن العلاقات بين الرياض وبغداد تجاوزت مراحلها الصعبة قبل هذه المناسبة، خصوصاً في عهد حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، إلا أن انطباعات الوفدين عن اللقاء وتدوينهما ذلك في التقارير الرسمية التي وزعت على وسائل الإعلام في حينه، تكشف عن تطور لافت في العلاقة، إلى حد دفع الشمري إلى شكر السعودية بعد مغادرته على “حفاوة الاستقبال والترحيب”، في وقت كانت تحية مضيفه السعودي أنه حين يكون في الرياض فهو في “بلده الثاني”.
وجاءت المرحلة الراهنة بعد بضع سنوات من التنسيق والمباحثات التي أفضت إلى إقرار مجلس الوزراء السعودي في يوليو (تموز) 2019 “تفويض وزير الداخلية، أو من ينوب عنه، التوقيع على اتفاق تعاون أمني مع الجانب العراقي”.
واتخذت حكومة البلدين منذ 2015 خطوات متسارعة نحو تطبيع علاقاتهما، خصوصاً في المجالات الاقتصادية والأمنية عبر الربط الكهربائي وفتح المنافذ البرية، مما عزز عامل الثقة بينهما ودفع قيادات من مستويات رفيعة إلى تبادل الزيارات.
ويشير مصدر سياسي عراقي بشرط (عدم ذكر اسمه)، إلى أن أطرافاً شعبية واسعة في بغداد أصبحت تنظر للتحولات التي تشهدها السعودية بنوع من الغبطة والتساؤل عما يمنع العراق أن يحذو حذوها، وأن “الاتفاق قد يكون بداية مفيدة للبلدين اللذين يتمتعان بموارد اقتصادية وبشرية كبيرة للاستفادة من مقومات بعضهما”، لكنه حذر من أن جهات لم يشأ ذكر اسمها لن تكون سعيدة بذلك على الإطلاق، “وعلينا توقع مقاومتها لأي انفتاح كبير الأثر بين الجارتين العربيتين”، في إشارة إلى إيران.
حصر السلاح بيد الدولة
وكان وزير الداخلية العراقي أعلن في تصريحات صحافية قبل مجيئه الرياض، أن حكومة بلاده قررت ضبط حدودها الجغرافية مع دول الجوار خصوصاً مع إيران وتركيا، وهي الحدود التي تراها دول مجلس التعاون تشكل مصدر قلق أمني لها، خصوصاً من جهة إيران التي لا تخفي دعمها ميليشيات مسلحة متعددة الجنسيات تستهدف أمن الخليج.
لكن الشمري أقر في حوار مع “العربية” أن ملف “حصر السلاح بيد الدولة يحتاج إلى فترة طويلة من خلال حصر الأسلحة وجردها وتثبيتها… فمن غير المسموح لأية جهة باقتناء الأسلحة الثقيلة، أما الخفيفة فنحن نعطي تصاريح بحملها وحيازتها وفق ضوابط، ولن نسمح بوجود أسلحة ثقيلة متوسطة لا لدى العشائر ولا غيرها”.
في هذا السياق تعهد رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني لدى مشاركته في مؤتمر “ميونيخ” أخيراً بأن العراق سيصبح جزءاً من الحلول في المنطقة وليس المشكلات، مؤكداً أن حكومته أجرت إصلاحات في القطاع الأمني الذي قال إنه “لم يشهد إصلاحاً منذ سنوات”، معتبراً أن القوى السياسية تدعم “إصلاح المؤسسات الأمنية وهي إحدى نقاط الاتفاق السياسي لتشكيل الحكومة”.
التقريب بين السعودية وإيران
ولفت إلى أن عودة بغداد نقطة التقاء في الإقليم بحسب وصفه “هو دور ريادي وطبيعي وليس دوراً متقمصاً، ويمكن للعراق أن يلعب دوراً في تقريب وجهات النظر المتباينة بين دول المنطقة”.
وأشار في تصريحات تناقلتها الصحافة العراقية إلى أن “المساعي مستمرة للتقريب بين السعودية وإيران وسنعاود قريباً اللقاءات التي توقفت بين الطرفين”.
وبعد فتح “معبر عرعر” الحدودي بين السعودية والعراق قبل نحو عامين ارتفع حجم التبادل التجاري بين الجارين لنحو “مليار دولار”، يتوقع أن تتضاعف بأعداد كبيرة، إثر تشجيع الرياض السياحة والترفيه، وانفتاح العراقيين أكثر من أي وقت على جيرانهم الخليجيين، في تحول أكثر ما يعبر عنه حضور ملايين الشبان العراقيين العابرين للطوائف والأيدولوجيات والمناطق مباريات كأس الخليج التي أقيمت أخيراً في البصرة، وسط ترحيب خليجي وسخط إيراني.
وفي أكتوبر (كانون الأول) 2022، أعلن صندوق الاستثمارات السعودي تأسيس خمس شركات إقليمية تستهدف الاستثمار في ست دول من بينها بغداد. وستبلغ قيمة الاستثمارات المستهدفة، بحسب بيانات رسمية، نحو 90 مليار ريال (24 مليار دولار) في فرص استثمارية متنوعة تشمل البنية التحتية والعقارات والتعدين والرعاية الصحية والأغذية والزراعة والتصنيع والتكنولوجيا.
من السياقات اللافتة التي تؤرخ لحقبة تعاون جديدة بين البلدين، تزامن الاتفاق الأمني مع إعلان القيادة السعودية تطوير “منطقة الحدود الشمالية”، المحاذية للعراق والأردن، في خضم جذوة تنمية تشهدها مدن شتى من أنحاء المملكة مترامية الأطراف.
وأعلن في الرياض الإثنين الماضي تأسيس المكتب الاستراتيجي لتطوير ورفع مستوى التنمية في مدن ومحافظات المنطقة، وتعزيز جودة الحياة لسكانها وزوارها، من خلال استثمار المقومات الاقتصادية والطبيعية والتاريخية للمنطقة، وموقعها الحدودي الاستراتيجي بوصفها إحدى “بوابات السعودية” الشمالية.
وسيتولى المكتب إطلاق المبادرات والمشاريع النوعية التي تسهم في إيجاد بيئة استثمارية جاذبة لرؤوس الأموال، الأمر الذي قالت الحكومة إنه “سيحقق نهضة تنموية واقتصادية كبيرة وتوفير فرص عمل للمواطنين والمواطنات، بما يعزز من أهداف التنمية المستدامة”.
تجاوز “الارتياب”
ويقر الباحث الإسباني في خلاصة دراسته التي نشرها مركز الملك فيصل للبحوث، بأنه على رغم تعقيدات إرث العلاقات بين البلدين الذي تغلب عليه “المواجهة والعزلة وأحياناً الازدراء المتبادل” على حد وصفه، فإن مجموعة من العوامل والدوافع “احتشدت على المستويين الدولي والداخلي ومستوى صناع القرار وفوقها عامل الاتصال الجغرافي؛ لبناء مسار جديد يؤطر استراتيجية جديدة غير خطية من التقارب الثنائي… الذي تنشط فيه خطط التعاون الأعمق التي استعيد بعضها من مخططات سابقة، فيما يمثل بعضها الآخر إبداعاً كاملاً”.
ويرى بوردون أن الجوانب الأمنية والاقتصادية والسياسة لم تكن وحدها التي شكلت خيوط استقطاب الرياض بغداد لمحيطها العربي، فقد مكنت السعودية من برغماتيتها الراهنة في التفاعل “ليس مع الحكومة فقط، بل تجاوزها لتصل إلى رموز شيعية عراقية وقادة جماعات أخرى، وإلى بناء قنوات جديدة لإضفاء بعض الاستمرارية على العلاقة”. ولم ينس في هذا الصدد عديد من المجالات التي يمكن أن تصبح أوراقاً رابحة مثل طرق الحج نحو الديار المقدسة في مكة والمدينة، والمزارات الشيعية بالنسبة إلى سكان السعودية ومواطنيها من المذهب الجعفري.
ويخلص في نهاية المطاف إلى أن الجوانب الواعدة في العلاقة لا تلغي نواحي ما سماه “الارتياب”، الذي يمكن أن “يتلاشى تدريجاً عبر التفاوض الفعال”، خصوصاً مع تعميق دور الحدود في التقارب بين الدولتين. غير أنه اعتبر التهديد الأكبر لهذا التحول هو في استقرار العراق نفسه، الذي يراه “يحتاج إلى إصلاح هيكلي قبل أن ينقلب فيه الاستقرار انقلاباً كاملاً”.
اندبندت عربي