مؤتمر ميونيخ للأمن موعد سنوي للحوار والبحث في حال العالم. المدعوون إليه هم قادة الدول والوزراء والباحثون الجيوسياسيون والخبراء الاستراتيجيون والمنظرون السياسيون. نصفه نوع من سوق عكاظعصرية: مناظرات لا حوار، وإشارات إلى مواقف جديدة، أو تبرير للمواقف المعلنة. وربعه حوارات ولقاءات في الكواليس بين حلفاء وخصوم. والربع الأخير رؤى مستقبلية.
هذا العام لم تدع إلى المؤتمر روسيا ولا إيران. وكان من طبائع الأمور أن تهيمن حرب أوكرانيا على المناظرات والحوارات. والضيف الذي صار دائماً في أي مؤتمر عبر التقنيات التكنولوجية هو الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وهو يكرر المطالبة بمزيد من السلاح لضمان “النصر”، معتبراً أن بلاده تخوض حرب أوروبا وتدافع عن الحرية والديمقراطية والسلام في العالم ضد نظام استبدادي خرق حدود دولة مستقلة، ويحاول تمزيق خريطتها.
قبل سنوات، وقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على منبر المؤتمر ليعلن رفض الأحادية الأميركية على قمة العالم بعد نهاية الحرب الباردة، ويدعو إلى التعددية القطبية في نظام عالمي تجري خلاله المشاركة بين الأقطاب على “قدم المساواة وضمن الاحترام المتبادل”. وبعد سنوات أخرى، كشف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في المؤتمر الهدف الحقيقي لموسكو: الاستعداد للعلاقات في “عالم بعد الغرب”.
اليوم، تقف نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، داعية إلى “محاكمة القادة الروس”، وهذا ما ردده المستشار الألماني أولاف شولتز بالدعوة إلى تأليف “محكمة خاصة لمحاكمة المتورطين في جرائم حرب في أوكرانيا”.
أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كرر محاولة الحوار مع بوتين، فإنه قال للحضور بصراحة: “الوقت ليس للحوار، لأن روسيا اختارت الحرب، ولا يمكن ويجب ألا تكسبها، لأن ذلك يهدد الأمن الأوروبي والاستقرار العالمي”.
وأما الصوت الوحيد المختلف، فإنه كان صوت كبير الدبلوماسيين الصينيين وانغ يي الذي انتقد “هيستيريا” الغرب، وأعلن أمرين، أولهما أن بلاده على استعداد لتقديم “اقتراح للسلام في أوكرانيا”. وثانيهما الحديث عن مبادرة صينية لنظام سلام عالمي. والمفارقة أنه استخدم عملياً شعار إدارة جو بايدن عن “الأولوية للدبلوماسية”، في حين اندفعت الإدارة التي زار رئيسها كييف في إعطاء الأولوية للحل العسكري.
مدير المؤتمر كريستوف هوسيغين حدد العنوان العام بسؤال: “كيف يمكن فرض احترام القانون الدولي القائم على قواعد معروفة ومنع انتهاكه؟ وهل سيقوم نظام تكون فيه السيادة لقوة الحق والقانون أم نظام يتحكم به حق القوة؟” الأجوبة النظرية ركزت على “قوة الحق”.
لكن، ما يدور على الأرض في حرب أوكرانيا وأماكن أخرى هو العودة إلى “حق القوة”، كما في سياسات القرن التاسع عشر. وإذا كان المسؤول الأوروبي جوزيب بوريل قد كشف عن أن حرب روسيا على أوكرانيا أظهرت “جوانب من هشاشة الحلفاء في مجابهة التحديات”، فإن رئيسة وزراء أستونيا كايا كاوس سجلت أن “روسيا تطلق في يوم واحد عدداً من قذائف المدفعية يماثل ما تصنعه أوروبا خلال شهر”.
ومن الأمور البارزة في المؤتمر التركيز على أهمية الفضاء والشبكات السيبرانية في الحرب الحديثة، بحيث يصعب الانتصار من دون إدارة المعارك بالتنسيق بين القوات في البر والبحر والجو والفضاء السيبراني. ولا قيمة لعدد الجيوش إذا خاضت المعارك بكل سلاح وحده.
وما لفت الأنظار هو حديث وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان عن إجماع بدأ يتشكل في العالم العربي على أنه “لا جدوى من عزل سوريا”، والمطلوب هو “الحوار مع دمشق في وقت ما”، لكن حالياً لمعالجة “المسائل الإنسانية وعودة اللاجئين”، ما دام تحقيق “الأهداف القصوى في حل سياسي” غير متاح اليوم. وفتش عن العامل الإيراني في أزمات العالم العربي.
اندبدنت عربي