حرب أوكرانيا: نزيف الدم والخراب والخسائر الاقتصادية

حرب أوكرانيا: نزيف الدم والخراب والخسائر الاقتصادية

الحرب لم تحسم بعد، وهي على الأرجح ستطول؛ لأن بايدن تعهد لأوكرانيا ألا يتخلى عنها حتى تنتصر على روسيا، كما تعهد بوتين لشعبه بأن بلاده لن تنهزم أبدا. ولا شك أن كلا منهما صادق فيما يقول، وعازم على أن يفعل كل ما يمكن أن يفعل حتى يفي بالعهد أو يموت. أوكرانيا مجرد طلقة رصاص أو شرك لصيد الدب الروسي. وهم لا يريدون مجرد صيده، وإنما هم يعلنون رغبتهم في تجريده من مقومات الحياة، يريدون عزله تماما عن العالم. ومع ذلك فإن الحرب، حتى الآن، لا تسير لمصلحة أي من الطرفين، ولا العالم. ولا يبدو أنها ستكون. نهاية الحرب ستكون على مائدة المفاوضات وليس في ميدان القتال.
وتكتسي المواجهة في أوكرانيا بكافة الملامح التقليدية للحروب بالوكالة، التي هي في حد ذاتها إحدى أدوات الحرب الباردة، التي استمرت لفترة طويلة بين معسكرين متنافسين، وتميزت بانتشار الحروب بالوكالة، وسباق التسلح، والحرب الإيديولوجية، وتقسيم الاقتصاد العالمي بين سوقين مختلفتين. الآن عادت الحروب بالوكالة، وعاد سباق التسلح، وعادت الحرب الأيديولوجية، وتجري بقوة عمليات منظمة، باستخدام سلاح العقوبات، لتقطيع سلاسل الإمدادات العالمية، التي هي العمود الفقري للعولمة ووحدة السوق العالمية. وكما كانت الولايات المتحدة هي الطرف الرابح من الحرب الباردة الأولى، فإنها تحاول أن تكون أيضا الطرف الرابح من الحرب الباردة الجديدة. وسواء كان ساكن البيت الأبيض هو الجمهوري دونالد ترامب، أو كان الديمقراطي جوزيف بايدن، فإن شعار السياسة الأمريكية يظل في مضمونه واحدا لم يتغير «يموت العالم وتحيا الولايات المتحدة» أو «أمريكا أولا». تشريح التكلفة الاقتصادية للحرب الأوكرانية، يكشف لنا كيف تسير استراتيجية كل منهما في مواجهة الآخر على الساحة الاقتصادية. التكلفة الاقتصادية هي جزء ضئيل من التكلفة الكلية للحرب التي مجالات واسعة، يتعلق جانب منها بطرفي القتال المباشرين، منها التكلفة البشرية، والعسكرية، والاجتماعية، والسياسية، وتكلفة الفرص الضائعة في الحاضر والمستقبل بسبب الحرب. كما تشمل أيضا التكلفة التي تتحملها أطراف أخرى تشارك في الحرب بشكل غير مباشر، من خلال إمدادات الأسلحة وتقديم المساعدات، إضافة إلى التكلفة الباهظة التي يتحملها العالم، بسبب تداعيات الحرب، مثل أزمات الغذاء والوقود والتضخم والتمويل وغيرها. الجديد الذي تبحثه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هو احتمال فرض عقوبات أو قيود ثانوية، على دول لا تلتزم بالعقوبات وتتعامل مع روسيا، ترافق الحزمة العاشرة من العقوبات، التي من المقترح أن تشمل حرمان روسيا مما يقدر بنحو 11 مليار يورو من السلع في القطاعات الصناعية والتكنولوجيا.

ماذا فعلت العقوبات؟

تتعرض روسيا حاليا لحزمة مركبة من العقوبات الاقتصادية لم يشهد التاريخ مثلها. وتهدف العقوبات إلى إصابة روسيا بشلل كامل، يعجزها عن تمويل الحرب؛ فإذا هي عجزت، سترفع الرايات البيضاء، وتصرخ طالبة الاستسلام. هذا هو سيناريو حلف شمال الأطلنطي بقيادة الولايات المتحدة. وإذا أردنا إدخال جملة اعتراضية ضرورية هنا، فيجب أن نخبر القارئ، بأن الغاية النهائية للعقوبات ليست مجرد أن تستسلم روسيا، لكنها فرض نظام أحادي القطبية، تتربع الولايات المتحدة على قمته فوق العالم وتهيمن. وتشمل العقوبات المفروضة على روسيا الأفراد والشركات العاملة في كل أنشطة الاقتصاد، والتجارة والسلاح والتكنولوجيا والتعليم، والمنافسات الرياضية والفنية والعلمية. هدف العقوبات المباشر هو قطع روسيا عن العالم، وحرمانها من مواردها، وهزيمتها في الحرب حتى لا ترفع رأسها. ولن نتناول هنا في تشريح العقوبات الاقتصادية كافة الجوانب، مثل حرمان روسيا من الأصول المالية المجمدة للبنك المركزي الروسي في الخارج التي تقدر بحوالي 300 مليار دولار، أو تأثير العقوبات على البنوك والشركات، ومنها حرمان شركات النقل الجوي الروسية من الطيران في أجواء الدول الملتزمة بالعقوبات، وتأثير ذلك على حركة السياحة العالمية، فهذا يحتاج إلى كثير من التحقيقات الاستقصائية التي لا يتسع لها المكان هنا. وسوف نقتصر على التكلفة الاقتصادية للعقوبات، على صعيد الاقتصاد الكلي للدولتين المتحاربتين.
العقوبات ضد روسيا ظاهرة فريدة، لأنها تفرض على إحدى القوى الرئيسية في العالم، جيوستراتيجيا وتاريخيا واقتصاديا وثقافيا. روسيا في حقيقة الأمر ليست بطة عرجاء، وإنما هي الدولة التي تحتل وحدها أكبر مساحة بين غيرها من الدول، بما يعادل 3.35 في المئة من مساحة الأرض، تمتد عبر 11 منطقة توقيت زمنية تنظم حياة الناس في يومهم وليلهم. إنها أكبر مساحة من كندا، وأكبر من الصين. ومع إنها تنتج ما يعادل سدس الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، فإنها تصدر للعالم حوالي خُمس احتياجاته من القمح سنويا، وتنتج حوالي 12 في المئة من إنتاجه من النفط الخام، و12.5 في المئة من الغاز الطبيعي، و9.3 في المئة من الذهب، و8 في المئة من اليورانيوم، وهي خامس أكبر منتج للصلب، وثالث أكبر منتج للألمنيوم، وأكبر منتج للنحاس المكرر. فهل من العقل أن يتم اتخاذ قرارات بعزلها عن العالم؟ وهل يكون العالم من دون روسيا، مثل العالم الذي نعيش فيه ونعرفه؟!

أوكرانيا تخسر ثلث إنتاجها المحلي

في أواخر العام الماضي التقى محافظ البنك الوطني لأوكرانيا (البنك المركزي) أندرى بيشاني، مع كريستالينا جورجيفا، المدير العام لصندوق النقد الدولي، لمناقشة الوضع مع خبراء الصندوق، واستطلاع آفاق السياسة التي يمكن أن تقلل خسائر أوكرانيا إلى أقل قدر ممكن، وما تستطيع أوكرانيا أن تحصل عليه من الصندوق. وكان السؤال الأول الذي تم طرحه على بيشاني هو: بعد عشرة أشهر من الحرب، ما هو تأثيرها على الاقتصاد الأوكراني؟
وقال المحافظ إن أوكرانيا تقف صامدة أمام «هجوم عسكري هو الأطول أمدا والأوسع نطاقا على المستوى الأوروبي منذ الحرب العالمية الثانية». لكن تأثير الحرب كبير جدا ومن الصعب حتى استيعابه. وقال «طبقا لتقديراتنا، ستخسر أوكرانيا ثلث إجمالي ناتجها المحلي على الأقل في 2022. وأثناء الأسابيع القليلة الأولى، كانت الحرب دائرة في كل مكان تقريبا، سواء عن طريق العمليات البرية النشطة أو الضربات الجوية. كانت فترة بالغة الصعوبة. غير أن الشعب الأوكراني ومؤسسات الأعمال الأوكرانية سرعان ما بدأت تتعافى من الصدمة الأولى. وعاد بعض من نزحوا في البداية. وتكيف الاقتصاد الأوكراني مع ظروف الحرب. وأنشئت قطاعات اقتصادية جديدة تركز على دعم القوات المسلحة.
وطبقا لشهادة المحافظ، فإن النظام المصرفي ظل قويا، واستمر في العمل دون قيود. وقال: «أوقفنا تدفق رأس المال إلى الخارج، وطبقنا سعر صرف ثابتا، واتخذنا العديد من التدابير الضرورية لمكافحة الأزمة.» ومن المعروف أن أحد أخطر التداعيات السلبية المصاحبة للحرب هي هروب رؤوس الأموال الأجنبية.
الجانب الآخر من الصورة تقدمه تقارير الاتحاد الأوروبي ومؤسسات التمويل الدولية، فقد كان الاقتصاد الأوكراني قبل الحرب طبقا لهذه التقارير، يقف على أرضية قوية نسبيا، حيث كان معدل الدين الحكومي أقل من 50 في المئة، وعجز الميزانية في حدود 3.5 في المئة من الناتج المحلي. أما بعد 24 شباط/فبراير 2022 فقد تغيرت الصورة تماما، حيث انتقلت قدرات التمويل من اقتصاد السلام والتنمية إلى اقتصاد الحرب والبحث عن السلاح. وفي العام الحالي 2023 يستحوذ الإنفاق العسكري على أكثر من 50 في المئة من الميزانية. وانخفضت الأنشطة الاقتصادية بمقدار الثلث، وارتفع معدل التضخم إلى 23 في المئة، والبطالة إلى 30 في المئة، والتضخم إلى 28 في المئة، وأصاب الخراب والدمار كل قطاعات النشاط الاقتصادي. وقدرت مجموعة عمل دولية تكلفة إصلاح الأضرار بأكثر من 500 مليار دولار، قبل موجة القصف الصاروخي الروسي الواسع النطاق الذي استهدف المرافق الأساسية.
مع بداية الحرب قدر شركاء أوكرانيا الغربيون عجز الميزانية بحوالي 5 مليارات دولار شهريا حتى نهاية عام 2022. وتسلمت كييف حتى نهاية العام الماضي حوالي 28 مليار دولار من 50 مليار دولار كانت مطلوبة لتغطية عجز الميزانية، وقام البنك المركزي بطبع ما يعادل 12 مليار دولار بالعملة المحلية. وفي العام الحالي يقدر عجز الميزانية بحوالي 38 مليار دولار. وقد تعهدت كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتقديم التمويل الكافي.

روسيا وخسائرها النفطية

في شأن خسائر روسيا توجد ثلاث روايات، واحدة للمؤسسات الدولية، ومنها صندوق النقد والبنك الدولي، والثانية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وثالثة للحكومة الروسية. هذه الأخيرة تلتقي إلى حد كبير مع رواية مؤسسات التمويل الدولية، وتحاول ألا تتناقض معها. وخارج هذه الروايات الثلاث، توجد اجتهادات كثيرة لخبراء ومراكز دراسات في تقييم الوضع الاقتصادي الفعلي. ويركز الخطاب الغربي بشأن خسائر روسيا على إعلان مؤشرات تثبت أن العقوبات تعمل، وأن روسيا تتألم منها. ومع ذلك فإن السياسيين الأوروبيين يجدونها غير كافية مرة بعد المرة، فيلجأون إلى تبني حزمة جديدة منها، حتى تم إعلان 9 حزم من العقوبات، ويتم حاليا طبخ العاشرة بالاتفاق مع الولايات المتحدة. وطبقا للبيانات المعلنة من البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تمثل النادي الرسمي للدول الصناعية الغربية، فإن عام 2022 كان عاما شديد السوء على الاقتصاد الروسي. حيث انكمش الناتج المحلي بما يتراوح بين (-) 2.2 في المئة إلى (-) 3.9 في المئة. وطبقا لتلك التقديرات، فإن الانكماش سيستمر في العام الحالي، لكن الصندوق يتوقع نموا بنسبة 0.3 في المئة.
وحول تأثير العقوبات على القطاعات الاقتصادية المختلفة تتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن تنخفض حصيلة الصادرات الروسية بشدة، وأن ترتفع الواردات. ويؤدي العجز في الحساب الجاري إلى تخفيض قيمة العملة، ومن ثم فإن ارتفاع قيمة الواردات، وارتفاع التضخم المحلي بمعدلات سريعة. ويتفق كل من البنك الدولي وصندوق النقد على أن تأثير العقوبات سيتعاظم في العام الحالي، بعد انخفاض كبير في قيمة التجارة السلعية والخدمية خلال العام الماضي. وقدرت المنظمات الدولية معدل التضخم في روسيا في العام الماضي بحوالي 14 في المئة، لكنه من المتوقع أن يهبط هذا العام إلى 5 في المئة فقط، حسب تقدير صندوق النقد، وهو ما يعادل تقريبا نصف معدل التضخم المتوقع في بريطانيا. أما بالنسبة للنفط فإن تحديد سقف لأسعار الصادرات هذا العام، يبلغ 60 دولارا للبرميل، قد أدى إلى تخفيض الإيرادات. ويقدر الاتحاد الأوروبي أن خسائر روسيا ستبلغ ما يتراوح بين 500 إلى 800 مليون يورو يوميا خلال العام الحالي، إذا بلغ متوسط الأسعار 40 دولارا للبرميل. لكننا يجب أن نأخذ في الاعتبار أن روسيا في حال انخفاض سعر خام الأورال ستخفض إنتاجها، لدفع الأسعار إلى أعلى. وهي ستفعل ذلك فعلا اعتبارا من أول الشهر المقبل، وهو ما يلتقي مع المنتجين الآخرين للنفط.

تقييم الاقتصاديين الروس في الخارج

على العكس من البيانات الأوروبية فإن المؤشرات التي أعلنتها روسيا تشير إلى أن الأداء الاقتصادي في عام 2022 كان أفضل من أكثر السيناريوهات تفاؤلا بخصوص تأثير الحرب. فقد انكمش الاقتصاد بنسبة 2.5 في المئة فقط. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يحقق الاقتصاد نموا طفيفا في العام الحالي، في حين كانت التقديرات السابقة تتوقع انكماشا. وقد تمكنت روسيا من تحقيق هذا الأداء بفضل عاملين: الأول هو تحويل مسارات التجارة، في اتجاه الدول التي لا تلتزم بالعقوبات، مثل الصين والهند وتركيا وإيران. والثاني هو زيادة تدفقات النقد الأجنبي من إيرادات تصدير البترول والغاز مع ارتفاع الأسعار خلال العام الماضي. بمعنى آخر فإن شركات النفط الروسية التي حققت أرباحا استثنائية، سددت للميزانية الحكومية إيرادات وضرائب تزيد عن التوقعات. هذان العاملان ساعدا على زيادة معدل النمو الاقتصادي بحوالي 5 في المئة، قبل خصم أثر الحرب والعقوبات. ومن ثم فإن التحليل النهائي للخسائر من الحرب والعقوبات، بعد انكماش الاقتصاد بنسبة 2.5 في المئة يكون حوالي 5.5 في المئة تقريبا، وهو ما يقل كثيرا عن الخسائر التي كان الاتحاد الأوروبي يتوقعها أن تتراوح بين 8 إلى 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا.
وقد لعبت وفرة الموارد الطبيعية، وارتفاع أسعار الصادرات من القمح إلى الغاز إلى النحاس والألومنيوم والنحاس والصلب والأسمنت والأسمدة، دورا كبيرا في زيادة إيرادات الصادرات الروسية في العام الماضي إلى 580 مليار دولار، مقابل متوسط يدور حول 420 مليار خلال السنوات العشر الأخيرة، أي بزيادة 160 مليار دولار بنسبة زيادة تبلغ 38.1 في المئة. ومع ذلك فإن الاقتصاد الروسي تعرض لصدمة شديدة بسبب هروب رؤوس الأموال إلى الخارج. وتقدر دراسة فيوجن أن قيمة التدفقات الرأسمالية للخارج في العام الماضي بلغت 250 مليار دولار تقريبا، أي ما يعادل 14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وقد ساعدت تدفقات إيرادات الصادرات على تحييد الآثار السلبية لهروب رؤوس الأموال إلى حد كبير.

القدس العربي