يعتقد بعض الأوساط أن الحراك الدبلوماسي في المنطقة لمعالجة بعض أزماتها يرجح حصول تسويات حول بعضها، قد تنقل الإقليم بالتدرج من التأزم إلى الهدنة وخفض التوتر وتمهد لاتفاقات، على رغم غلبة التصعيد السياسي والعسكري في فلسطين وسوريا بالقصف الإسرائيلي. وعليه، ترصد هذه الأوساط مفاعيل الانفتاح العربي على سوريا بعد الزلزال.
في المقابل، تشكك أوساط أخرى أن ينتج الحراك السياسي حلولاً في سوريا نظراً إلى خضوع موقف دمشق لموجبات التحالف مع إيران، التي دخلت مرحلة جديدة من المواجهة مع الغرب بتورطها في حرب أوكرانيا، سواء عبر تزويدها موسكو بـ400 طائرة مسيرة بحسب الاتهام الأوكراني والأميركي لها، أو عبر ما جرى تسريبه عن اتفاق روسي – إيراني لبناء مصنع للمسيرات في روسيا، وهي تطورات تزيد من الاستقطاب الإقليمي بحيث يتعذر سعي بعض الدول العربية إلى اجتذاب دمشق إلى الحضن العربي.
الزلزال غير الأولويات؟
قبل الزلزال كان بعض مراكز الأبحاث وخبراء الشرق الأوسط يصنف سوريا بالنسبة إلى أكثرية الدول العربية، والخليجية خصوصاً، على أنها لم تعد أولوية، واقتصرت العلاقات معها على المستوى الأمني تحت عنواني محاربة الإرهاب “داعش”، ومكافحة تهريب المخدرات و”الكبتاغون”، في ظل علاقات اقتصادية منخفضة إلى أقصى الدرجات على رغم إبقاء عينها على مشكلة النازحين كأزمة تتأثر بها سائر الدول.
حتى إن وجود فصائل المعارضة في الدول العربية تراجع مقارنة مع وجود معظم قياداتها في تركيا، لكن مأساة 6 فبراير (شباط) أعادت سوريا إلى واجهة الاهتمامات، لأن الإغاثة الإنسانية تتطلب تنسيقاً مع دمشق، وهذا ما يفتح أفق البحث بتطوير الاتصالات على المستوى السياسي لتضييق شقة الخلاف بين دمشق وسائر الدول العربية.
وتحدث بعض الأوساط في الإعلام عن أن ثمن تطبيع الدول العربية مع النظام، بما يتجاوز تقديم المساعدات الإنسانية، التفاهم معه على خطوات من قبله، بدءاً من الإفراج عن المعتقلين السياسيين وهم بعشرات الآلاف، وتسهيل عودة النازحين إلى مناطقهم، ووقف التسهيلات المعطاة لإيران على الأراضي السورية من اتفاقات اقتصادية وأمنية وغيرها، وإعطاء معلومات عن مصانع “الكبتاغون” التي تهرب إلى دول الخليج وعبر الأردن ولبنان، وحلول جيش النظام السوري بالكامل مكان الميليشيات الموالية لطهران في محافظة درعا، وعلى الحدود مع الأردن، وبدء التفاوض مع المعارضة السورية تمهيداً لتشكيل حكومة تشارك فيها، وبرئاسة إحدى شخصياتها الموجودة في إحدى الدول العربية، تطبيقاً للقرار الدولي رقم 2254 بقيام هيئة حكم انتقالي وتعديل الدستور.
وذهب بعض التسريبات أو التكهنات إلى حد القول إن الدول العربية تطمح إلى إرسال قوات عربية بحجة المساعدة في كشف عصابات تصنيع “الكبتاغون”، وفي حماية عودة المهجرين.
إزاء هذه التسريبات حول المطلوب من رئيس النظام السوري بشار الأسد سأل أحد وزراء الخارجية العرب “هل رأيتم نظاماً ديكتاتورياً يسلم جزءاً من السلطة لخصومه بهذه البساطة، ويضعف دوره، طالما لديه القدرة على البقاء وحيداً على رأسها ويتمتع بحماية داخلية وخارجية؟”.
لكل دولة حساباتها وخلفياتها بالعلاقة مع سوريا
إلا أن الشكوك حول إمكان نجاح هذا المنحى تعود إلى قناعة المتابعين بصعوبة تجاوب النظام مع مطالب الدول العربية سواء بالنسبة إلى علاقته بإيران، أو بالنسبة إلى ترتيب تسوية للأزمة الداخلية. وتنطلق هذه الشكوك أيضاً من تصنيف خلفيات انفتاح كل من الدول التي أرسلت مبعوثين أو أجرت اتصالاً بسوريا بشار الأسد، أو بعثت بإشارات عن إمكان تغيير مستوى التعاطي مع النظام.
ويشير أحد المراقبين في تعداده هذه الخلفيات إلى أن انفتاح دولة الإمارات التي كانت سباقة في إرسال وزير خارجيتها الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، يعود إلى التعاون الأمني، إضافة إلى اهتمامها بالتنسيق في مكافحة تهريب المخدرات من سوريا. وإذا كان من مصلحة النظام الانفتاح على الجانب الإماراتي كإحدى قنوات تمرير الرسائل للجانب الأميركي، فإنه ليس مستبعداً اعتماد أبوظبي لدمشق كإحدى قنوات الرسائل في اتجاه إيران.
أما الانفتاح من قبل سلطنة عمان على الأسد فهو ليس جديداً، بل إن مسقط أبقت على سفارتها في دمشق حين سحبت دول عربية دبلوماسييها من العاصمة السورية عام 2011 بعد أن علقت عضوية سوريا في الجامعة العربية، وبقيت الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين قائمة على مستوى وزراء الخارجية، وصولاً إلى زيارة الأسد مسقط في 15 فبراير. فهي مركز تفاوض أميركي – إيراني حول الملف النووي، وبين الحوثيين والسعودية.
وفي 22 فبراير، نقل النائب في البرلمان الإيراني عضو لجنة الأمن القومي والخارجية علي زادة، بحسب وكالة “تسنيم” الإيرانية، عن وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان أن السلطان العماني هيثم بن طارق سيزور طهران قريباً حاملاً أخباراً سارة في شأن المفاوضات النووية. وفي معلومات سياسيين يترددون على دمشق أن الحكم السوري يطمح إلى لعب دور عبر القناة العمانية بين دول الخليج وإيران سواء في شأن اليمن أو حول أمن الممرات المائية، كما كان يحصل إبان الحرب العراقية – الإيرانية أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد.
وعن التواصل من قبل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مع الأسد، وإرسال مصر كمية كبيرة من المساعدات للمنكوبين السوريين، فإنه إضافة إلى مشاركة القاهرة دمشق خصومتها مع “الإخوان المسلمين”، لدى السيسي هاجس الحفاظ على هيكل الدولة والجيش في سوريا، الذي يعتبره جزءاً من الأمن القومي العربي كائناً من كان الحاكم في سوريا.
وفي ما يخص التطبيع اللبناني مع نظام الأسد فإنه يبقى في حدوده المعروفة، كون لبنان بلداً مأزوماً، في وقت العلاقة السياسية مع النظام موضوع خلاف داخلي مثل العناوين العديدة الأخرى، وأبرزها راهناً انتخاب رئيس للجمهورية، هذا على رغم مراهنة الفريق المؤيد للمرشح سليمان فرنجية على أن يسهم تحسن العلاقات العربية، خصوصاً السعودية – السورية في ترجيح كفته على سائر المرشحين، كونه صديقاً تاريخياً للأسد، لكن من المستبعد أن تتمكن دمشق من لعب دور في أزمة الفراغ الرئاسي اللبناني، لأن المسألة في يد “حزب الله” بالتالي إيران صاحبة النفوذ الأول، ولم تعد القيادة السورية مؤثرة كالسابق، أيام كان لبنان تحت معادلة ما يسمى “السين سين” (التوافق السعودي السوري).
نقطة الثقل في أي تطبيع و”المقاربة الجديدة”
وفي الانفتاح الأردني على الأسد، تشير الأوساط المراقبة إلى أن أكثر ما يقلق عمان الحدود مع سوريا، على رغم الحديث عن مبادرة أردنية للتوصل إلى حلول للأزمة السورية وفق مبدأ “خطوة مقابل خطوة”، المستبعد أن يتجاوب النظام معها.
وشكل الجسر الجوي السعودي بالمساعدات الإنسانية نقطة الثقل في المراهنات على إمكان إحداث نقلة في العلاقات، من المستوى الإنساني، ومن اتصالات على المستوى الأمني والاستخباراتي بين الدولتين، قبل الزلزال، إلى المستوى السياسي.
وأهم المواقف العربية والخليجية التي توقف عندها المراقبون قول وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود في 19 يناير (كانون الثاني)، في جلسة حوارية على هامش مؤتمر “ميونيخ” للأمن، إنه لا جدوى من عزل سوريا، في ظل غياب سبيل لتحقيق “الأهداف القصوى” من أجل حل سياسي، وإنه “بدأ يتشكل نوع من الإجماع في العالم العربي بأن الستاتيكو غير قابل للاستمرار. وهناك حاجة إلى معالجة مسألة اللاجئين السوريين في دول الجوار ومعاناة المدنيين، والأردن ولبنان يعانيان اقتصادياً من ذلك، إضافة إلى الوضع الإنساني بعد الزلزال”.
ودعا إلى “وضع مقاربة جديدة عبر حوار مع حكومة دمشق في وقت ما، في ما يتعلق بالزاوية الإنسانية وعودة اللاجئين”. وكان الوزير صرح أيضاً، في 20 يناير الماضي، في مقابلة مع “بلومبيرغ” على هامش منتدى “دافوس” في سويسرا “نعمل مع شركائنا لإيجاد طريقة للتعامل مع الحكومة في دمشق. وسيتطلب ذلك تحركات ملموسة نحو حل سياسي”.
بين الخطوات الإنسانية والحلول السياسية
وعكس الموقف السعودي اهتماماً بوضع خطة جديدة للتعاطي العربي مع الوضع السوري، وركز على معضلة اللاجئين السوريين جراء الحرب السورية الطويلة، وهي سياسية بقدر ما هي إنسانية، زادها الزلزال تفاقماً. وفي اعتقاد المراقبين لسائر خطوات الانفتاح العربي على دمشق أن إعادة اللاجئين تحتاج كي تكون فعالة، إلى خطوات سياسية من النظام من أجل حماية هذه العودة، أمامها عقبات كثيرة في ظل التعقيدات الإقليمية الصعبة، والتي من مظاهرها تصاعد التغلغل الإيراني في أنحاء سوريا، كورقة في يد طهران، بحيث يصعب على الطاقم الحاكم في دمشق أن يقبل على تنازلات من دون الأخذ في الاعتبار موقف طهران التي ترهن كل أوراقها لصراعها مع الغرب، كما أن دمشق ترهن أي تنازلات أو صفقات بموقف الغرب منها. في المقابل هناك دول عربية رعت رموزاً في المعارضة السورية لسنوات يصعب عليها التخلي عنها من دون ثمن للفريق السوري المعارض، بعد سنوات من الاحتضان، في وقت ينقل العارفون بموقف الطاقم الحاكم في سوريا أنه يشعر بـ”الاستفزاز” حين يحدثه أي فريق عن خطوات لتطبيق القرار الدولي رقم 2254 الذي ينص على قيام حكم انتقالي، ويكتفي بالدعوة إلى تقديم المساعدات الإنسانية عبر مناطق النظام من دون غيرها.
ويتوقع الذين يرصدون مدى الانفتاح العربي على سوريا أن تشهد المرحلة الراهنة كثيراً من الاتصالات والحوارات على قاعدة عدم طرح شرط الانسحاب الإيراني من سوريا، من أجل التطبيع، في انتظار انعقاد القمة العربية التي تستضيفها الرياض. فهل سيشهد انعقادها نقلة نحو إعادة لم الشمل العربي لمناسبة تفاقم الأزمة الإنسانية في سوريا؟ أم تستمر الصعوبات والموانع إزاء ذلك؟
في الانتظار، تحث موسكو الدول العربية على إعادة وصل ما انقطع مع سوريا، بحجة أن غيابها عنها سمح لطهران بأن تملأ الفراغ.
اندبندت عربي