لبنان المتروك من المافيا السياسية والمالية والميليشياوية المتسلطة ليس متروكاً من العالم، ولا بالطبع من الأشقاء العرب. والأمر اللافت وسط الانشغال الدولي بحرب أوكرانيا وتطوراتها العسكرية على الأرض وانعكاساتها الجيوسياسية والاستراتيجية والاقتصادية على العالم كله، هو استمرار الانشغال بالوطن الصغير الذي شغل السلطنة العثمانية والدول السبع الكبرى في القرن التاسع، ثم كان له مكان في مؤتمر “فرساي” بعد الحرب العالمية الأولى حيث استعاد كيانه.
ولم يغب ذكره في يالطا وبوتسرام بين الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وكان صاحب دور كدولة مستقلة في إنتاج ميثاق الأمم المتحدة في مؤتمر “سان فرانسيسكو”. فاللقاء الخماسي في باريس الذي ضم أميركا وفرنسا والسعودية ومصر وقطر، له تتمة في مسعى لإخراج لبنان من هاوية الأزمات، وفي البداية من الشغور الرئاسي.
و”مجموعة العمل الدولية من أجل لبنان”، التي تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وأميركا وروسيا والصين وفرنسا وبقية دول أوروبا إلى جانب دول عربية مهمة، أصدرت بياناً دعت فيه القيادات اللبنانيةإلى الإسراع بانتخاب رئيس للجمهورية، وتأليف حكومة تجري إصلاحات مالية واقتصادية مطلوبة ومهمة، وعقد اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي للبدء بمساعدة لبنان في مسار التعافي السياسي والمالي والاقتصادي. وهذه مطالب اللبنانيين. والكل تابع التحذير من “تعفن لبنان” وانهياره الكامل، وكرر التعبير الذي شاع منذ سنوات “ساعدوا أنفسكم لكي نساعدكم”.
لكن، النداءات والتحذيرات وقعت في آذان صماء لجماعة “الممانعة” التي تقودها إيران ويمثلها في لبنان “حزب الله“، الذي صار يلعب من أجلها دوراً إقليمياً في سوريا والعراق واليمن وغزة. فما يشغل “محور الممانعة” ليس الوضع اللبناني المزري بل المصالح الضيقة والشخصية لبعض أطرافه، ومستقبل “المقاومة” بالنسبة إلى الطرف القوي في المحور.
ومن يقود التهجم على العرب والغرب، لا سيما السعودية والإمارات العربية وقطر وأميركا، يراهن على موقف عربي وغربي يوافق على انتخاب مرشحه للرئاسة. وهذا حلم إبليس في الجنة، بعد كابوس “الذهاب إلى جهنم” بدفع من الثنائي الحاكم في الولاية السابقة للرئيس ميشال عون.
والأغرب هو رفع الممانعين شعار ماو تسي تونغ الذي خلاصته “الوضع ممتاز ما دامت فوضى كثيرة تسود تحت السماء”. والحجة هي أن الفوضى فرصة مثالية للتقدم على طريقة ماو أيضاً “يجب أن تسوء الأمور أكثر لكي تصبح أفضل”.
وهناك من يراهن على اكتمال الانهيار لبناء لبنان آخر من جديد. وهذه “فانتازيا” قاتلة. فالذين سطوا على المال العام والخاص لن يصلحوا النظام المالي والمصرفي، والذين دفعوا اللبنانيين إلى “جهنم” البؤس والفقر والعوز والخوف والانتحار بسبب العجز عن تأمين الحليب للأطفال لن يقبلوا أي إصلاح، وأي تغيير في النظام يحرمهم من الهيمنة والسطو وضمان المصالح الخاصة.
ولا ثورة تلوح في الأفق تدعمها كتلة شعبية تاريخية لها مصلحة في التغيير الجذري. وما دمنا نتعثر منذ أشهر على الطريق إلى انتخاب رئيس للجمهورية بعد التعثر في تأليف حكومة كاملة الصلاحيات، فكيف ننجح في إعادة تأسيس لبنان من خلال دعوات الممانعة إلى “مؤتمر تأسيسي”؟ أليس صاحب السلاح هو من يفرض على الآخرين التسليم بما يرسمه؟ وكيف يمكن تأسيس نظام لبلد عربي يضم 18 طائفة على يد “ثنائي” مذهبي بقوة سلاح إيراني له دور إقليمي ضمن “محور المقاومة” الممتد من طهران إلى صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت وغزة للدفاع عن النظام الإيراني؟
اللعبة أكبر من لبنان الذي كان ولا يزال أكبر من اللاعبين. وأي تغيير لهوية لبنان الوطنية العربية وتاريخه وثقافته هو مهمة مستحيلة. فما ينقصه ليس إعادة التأسيس بل استعادة الدور التاريخي، وما يوقفه على قدميه هو تطبيق اتفاق الطائف وعودة الروح إلى الدستور واللعبة الديمقراطية البرلمانية. والبداية من السياسة والثقافة قبل الاقتصاد والمال.
اندبندت عربي