العمق الاستراتيجي هو المساحة التي يمكن التراجع وراءها لدرء هجمات العدو وهو ما تتمتع به روسيا خلافاً لألمانيا مثلا، التي يجعلها واقعها الجغرافي على شكل المقاطعة التي يصعب فيها التراجع والتقهقر والانكفاء
هذا بخصوص المصطلحات العسكرية، لكن عبارة «العمق الاستراتيجي» تجاوزت الإطار العسكري لتكون معيارا تقاس به قدرة بلد ودولة ونظام حكم على الصمود من جهة، وعلى خلط الأوراق من جهة أخرى، وليس مجرد قدرة جيش وعتاد عسكري ومخططات هجومية على الحسم لهذا سمع هذا المصطلح في الخطاب الإعلامي في أكثر من مناسبة، وتداوله الخبراء والمراقبون بكثافة، وفي نهاية المطاف، تداوله الخبراء والمراقبون الجيوسياسيون، أكثر من الخبراء العسكريين.
فتح العمق الاستراتيجي لكل من روسيا والصين صفحة من الاستقطابات الجديدة التي أنزلت أمريكا نهائيا من موقع «دركي العالم» الآمر الناهي
وليس هذا الأمر مثيرا للاستغراب، وليست هذه أول مرة ينقل فيها مصطلح من حقله الدلالي الأصلي إلى حقل دلالي جديد، خاصة عندما يتعلق الأمر بموضوع المساحات وهوامش المناورة وليس العمق الاستراتيجي من أقل المفاهيم تأثيرا في تحليل الرئيس الفرنسي لواقع النزاع الروسي الأوكراني، حينما يتحدث عن ضرورة عدم «إذلال» أو «سحق» روسيا، فهذا الواقع، وهو ما ينساه المحللون كثيرا، ينعكس مباشرة على الدبلوماسية الدولية، المحكومة من الآن فصاعدا بتصورات واستقطابات غير مسبوقة نعم، يجدر بنا من الآن فصاعدا الحديث عن قيام نظام عالمي جديد، كما كنا نتحدث عن نظام عالمي جديد إبان الحرب العالمية الثانية، بل حري بنا أن نتحدث عن نظام عالمي «جديد جديد» وفي معرض حديثنا عن ملامح النظام العالمي الجديد الذي أدخلنا فيه النزاع الروسي الأوكراني، يصبح العمق الاستراتيجي مفهوما إجرائيا يتيح لنا تذكر أمرٍ في غاية الأهمية، وهو ارتباط النفوذ بالمساحة، فالعمق الاستراتيجي الروسي والصيني محدد أساسي لفضاء جيوستراتيجي مقبل لا تبرز ملامحه من مآل العملية العسكرية، بقدر ما يعكس ما كان محسوبا قبل بدء العملية حتى، وهو تكريس تراجع النفوذ الأمريكي الذي لا يمكن التساوي بين دعمه العسكري لأوكرانيا وشعاراته التعويذية (أوكرانيا لا بد لها أن تنتصر) فيما يعلم جيدا أن نهاية «القصة» نهاية لا خاسر ولا رابح استقطاب، خلط للأوراق، هوامش مناورة، مفاهيم وجب ربطها بواقع جديد، بالإمكان توصيفه بالواقع المعزز على منوال نقل المصطلح من معناه الأصلي إلى معنى جديد، أو إذا أردنا الدقة، مجدد فما اعتدنا على تسميته بالقوة الناعمة، نوع من الواقع المعزز، واقع مؤلف من الافتراضي والواقعي يبدأ بالهجوم السيبراني زمن الانتخابات – كما عرفته فرنسا – ويتواصل بتكتم معلومات عن مصدر الوباء العالمي لكن الواقعين الروسي والصيني اللذين يتسمان بمنطق الألغاز لدى كثير من الغربيين، يتسمان في الوقت نفسه بمنطق استراتيجي يعزز بدوره عمقهما الاستراتيجي بنفوذ متعدد الأذرع هذا يتبدى جليا في أرضية تعد تمديدا للعمق الاستراتيجي الروسي والصيني: إنها الأرضية الافريقية، التي طالما عرفت بمرتع للشركات الصينية أما القوة الناعمة «الجديدة» (نسبيا فهي تسبق النزاع الروسي الأوكراني)، المتجسدة في وجود شركة «فاغنر» على الأراضي الافريقية، فليست سوى ترجمة مسعى روسي لتغطية نواقص عسكرية، ووضع اقتصادي منهك بحضور جيوسياسي من الصعب الحسم في نجاحه على المدى البعيد، فصراع النفوذ صراع داخلي روسي في المقام الأول بين صاحب شركة فاغنر بريغوجين من ناحية، ووزير الدفاع سيرغي شويغو وقائد العمليات الجنرال جيراسيموف من ناحية أخرى، ولا يمكن البت أبدا في من سيدفعه بوتين من المعسكرين إلى طاولة المفاوضات بعد الحرب
لقد فتح العمق الاستراتيجي لكل من روسيا والصين صفحة من الاستقطابات الجديدة التي أنزلت أمريكا نهائيا من موقع «دركي العالم» الآمر الناهي، لكن من المستحيل الجزم بطبيعة المشهد الجديد الذي، وإن كان سيفرد للصين وروسيا مكانة خاصة وغير مسبوقة، لا يزال يحمل أكثر من علامة استفهام.
القدس العربي