بعد مداولات استمرت لأشهر وعقب خلافات عميقة دبت بين فرقائها، اختارت الطاولة السداسية المعارِضة في تركيا رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو مرشحا توافقيا لها لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة. ورغم أنه من المتوقع أن تقدم بعض الأحزاب الأخرى مرشحين للرئاسة، فإنه بات من المحسوم أن المنافسة الحقيقية في الانتخابات ستكون بين كليجدار أوغلو والرئيس الحالي رجب طيب أردوغان.
عناصر القوة
من المنطقي والمتوقع في أي بلد أن يرشح زعيم المعارضة نفسه في الانتخابات الرئاسية أمام الرئيس الحاكم، لكن زعيم المعارضة التركي لم يفعل ذلك من قبل؛ إذ انتُخب كليجدار أوغلو لرئاسة حزب الشعب الجمهوري عام 2010، ولكنه لم يرشح نفسه في رئاسيات 2014 أو 2018 في مواجهة أردوغان، رغم الانتقادات التي وُجهت له بسبب عدم ترشحه.
واليوم، ثمة متغيرات عديدة جعلت الرجل يرى في الانتخابات المقبلة فرصة غير مسبوقة لإمكانية الفوز بالرئاسة، معتمدا على عدة نقاط قوة لديه أو نقاط ضعف لدى خصمه، في مقدمتها ما تغير في البلاد خلال السنوات الفائتة من ظروف وما شهدته من تطورات أدت في مجملها إلى تراجع حضور حزب العدالة والتنمية وشعبيته ورغبة كثيرين في التغيير، لا سيما الشباب الصغير، مثل مشكلات الاقتصاد وجائحة كورونا والزلزال الأخير.
من أبرز عوامل قوة كليجدار أوغلو رئاسته لأكبر أحزاب المعارضة، وأنه حسم القيادة فيه لصالحه بشكل كبير، بعد أن نحّى القيادي البارز محرم إينجه، وسد الطريق أمام رئيسي كل من بلدية إسطنبول وأنقرة، وهو ما يعني أن خلفه ماكينة حزبية وتنظيمية قوية وذات خبرة ستعمل لصالح حملته الانتخابية.
لا يملك الرجل الكاريزما التي يتمتع بها رؤساء الأحزاب التركية في عمومهم، فضلا عن أنه لم يوفق سابقا في الفوز على أردوغان وحزب العدالة والتنمية في أي مناسبة انتخابية حتى اللحظة
ومن هذه العوامل إجماع الطاولة السداسية على تقديمه مرشحا توافقيا، رغم الخلافات التي ظهرت على السطح والشعور بأن جزءا من هذا الإجماع أتى بالإكراه. من جهة، يستفيد الرجل هنا من صورة إجماع الأحزاب التي تمثل طيفا متنوعا في الشارع التركي بين إسلاميين ومحافظين وقوميين وليبراليين، ومن جهة ثانية يستفيد من ماكيناتها الحزبية في الحملة الانتخابية كما يفترض.
كما أن الرجل سيسعى لتحصيل دعم من خارج أحزاب الطاولة السداسية، وقد التقى بحزب اليسار وتلقى دعما مبدئيا -ومشروطا بالحوار- من حزب الشعوب الديمقراطي، ومن المتوقع أن يكون له تواصل مع أحزاب أخرى، في محاولة لجمع كل المعارضة خلفه.
ومن عوامل قوته لغته المختلفة عن الخطاب التقليدي لحزب الشعب الجمهوري وصورة التغيير الذي صنعه في هذا الإطار، وسياسة التوافق التي حرص عليها خلال السنتين الأخيرتين مع باقي الأحزاب، ودعوته للتصالح مع الغاضبين تاريخيا من حزبه، وكذلك الفوز الرمزي والمهم لحزبه، وتحالف الشعب الذي قاده، ببلديتي أنقرة وإسطنبول.
نقاط الضعف
قد يبدو من كل ما سبق أن كليجدار أوغلو حاز عوامل قوة عديدة ومتميزة تعزز فرصه وتكاد تجعل طريق الفوز بالانتخابات معبّدة أمامه، إلا أن ذلك لا يبدو دقيقا. فالانتخابات في تركيا على وجه التحديد شديدة التعقيد، فضلا عن أن للرجل نقاط ضعف من الصعب التغاضي عنها.
فمن حيث المبدأ، لا تنطبق على الرجل مواصفات المرشح التوافقي المثالي للمعارضة، التي أهمها أن يكون محايدا قدر الإمكان ليكون مقنعا لمختلف شرائح الشعب، وقادرا على إقناعها بالتصويت له، وأن يكون خيارا “آمنا” ومطمئنا لبعض أنصار أردوغان والعدالة والتنمية التقليديين ليصوتوا له. بيد أن الرجل “فاقع” سياسيا -إن جاز التعبير- كونه رئيسا لأكبر أحزاب المعارضة، وهو حزب ذو أيديولوجيا واضحة وتاريخ معروف وحافل، ومن هذه الزاوية فهو مرشح “مقلق” لبعض الشرائح المحافِظة على وجه التحديد.
كما أن الرجل لا يستطيع الانفكاك عن إرث حزبه، الشعب الجمهوري، على طول مئوية الجمهورية التركية. ولئن بدأ ما سماه “مسار المصالحات” مع الشرائح التي تضررت من حزبه سابقا، لكنه بالنسبة لكثيرين يبقى رئيس الشعب الجمهوري ومرشحه، وليس المرشح التوافقي للطاولة المتنوعة المشارب.
وعلى المستوى الشخصي، لا يملك الرجل الكاريزما التي يتمتع بها رؤساء الأحزاب التركية في عمومهم، فضلا عن أنه لم يوفق سابقا في الفوز على أردوغان وحزب العدالة والتنمية في أي مناسبة انتخابية حتى اللحظة، وقد كان مهددا في رئاسة حزبه حتى وقت قريب. فضلا عن أن أصوله العلوية قد تكون عائقا أمام تصويت بعض الناخبين له، وهذا ما كان يحذر منه قياديون في الحزب الجيد، ولذلك -ضمن أسباب أخرى- لم تكن رئيسة ذلك الحزب، ميرال أكشنار، تراه “مرشحا قادرا على الفوز”.
كما أن الإدارة الجماعية التي يَعِد بها الرجل مع الطاولة السداسية، بأن يكون رؤساء الأحزاب الأخرى -وربما آخرون- نوابا له يحتاج للتوافق معهم في قضايا مهمة وحساسة، مثل شؤون الأمن القومي وإعلان حالة الطوارئ بل وتعيين الوزراء وإقالتهم، قد توحي بالضعف وعدم القدرة على حسم الموقف واتخاذ القرار السليم.
فالثقافة السياسية للشعب التركي في عمومه تفضّل صورة الزعيم القوي صاحب الكاريزما القادر على الخطابة والقيادة والتأثير، وتَعزز ذلك بشكل لافت بعد النظام الرئاسي. ولئن أرادت المعارضة بهذا الأمر أن تقدم مثالا للعقل الجمعي مقابل الإدارة الفردية، فإنها تغامر بإثارة هواجس البعض بخصوص قدرتها على التوافق، خاصة أنها من خلفيات متباينة وأحيانا متناقضة، وقد كانت خلافاتها الأسبوع الفائت نموذجا سلبيا من هذه الجهة.
كما أن الانتخابات -وخصوصا في تركيا- ليست عملية حسابية دقيقة ومباشرة، بل تخضع لمعادلات سياسية واجتماعية وثقافية متعددة ومعقدة ومتشابكة، وتتدخل في تحديد نتائجها عديد من المدخلات وكثير من الفواعل.
ولذا، فوقوف الأحزاب الخمسة -وغيرها- خلف الرجل لا يعني بالضرورة أن تصب كل أصوات أنصارها لصالحه. فمن جهة، لا تملك هذه الأحزاب -وفي المقدمة الإسلامية والمحافظة منها- ضمان تصويت كل أنصارها له، وقد ظهرت فعلا بعض الاعتراضات داخلها خلال الأيام القليلة الماضية.
كما أنه على عكس الوثائق التي صدرت عن الطاولة السداسية حتى الآن والتي اكتفت بالعموميات المتفق عليها، فإن الحملة الانتخابية ستضطر الرجل للدخول في تفاصيل بعض القضايا الحساسة، وحينها ستكون لأي موقف أو تصريح (منه أو من قيادات حزبه) تأثيرات إيجابية على البعض وسلبية على البعض الآخر. ومن أمثلة هذه القضايا التي ستكون للفرقاء مواقف متباينة بشأنها، إعادة تحويل آيا صوفيا لمتحف، والعودة لاتفاقية إسطنبول بخصوص حقوق المرأة، ودعم المثليين، والمسألة الكردية وغيرها.
كما أنه ليس من المتوقع أن تعمل الماكينات الحزبية والكوادر التنظيمية لباقي الأحزاب بنفس نشاط وحماسة الشعب الجمهوري، فضلا عن أن أولوية الأخير هي الانتخابات الرئاسية بينما أولوية الأحزاب الأخرى هي الانتخابات البرلمانية، وهو ما يجعل الطرفين أقرب لحالة التنسيق منها لحالة التحالف والموقف الموحد.
وفي الخلاصة، فإن مشهد الإجماع الذي حرص كليجدار أوغلو على تقديمه بخصوص الدعم المقدم له وباقي عوامل القوة تجعله منافسا قويا في الانتخابات المقبلة، وإن كان أقل حظا من شخصيات أخرى في المعارضة. إلا أن له نقاط ضعف يمكن لخصمه أردوغان استثمارها، لا سيما أن أردوغان مرشح قوي ومخضرم وصاحب خبرات واسعة في مسألة الانتخابات تحديدا، فضلا عن أنه يرأس الدولة بما يمكن أن يمنحه أوراقا وأدوات لتعظيم فرصه في الانتخابات المقبلة، وقد تحمل الأسابيع المقبلة مفاجأة من أي نوع.
وأخيرا، تبدو هذه الانتخابات الأصعب على أردوغان والعدالة والتنمية، وستجرى وفق ديناميات مختلفة تماما هذه المرة، ولن تحسمها الأيديولوجيا والكاريزما فقط، ولكن ستتدخل التحالفات بشكل رئيسي في تحديد الفائز بها، لا سيما إن احتاج الأمر لجولة إعادة.
كما أن ملف الزلزال الأخير ومدى نجاح الحكومة بقيادة أردوغان في تقديم منجزات سريعة فيها بخصوص الإيواء وإعادة الإعمار وإحياء المدن المنكوبة ستكون له مساهمة بارزة -قد تسبق كثيرا من العوامل السالفة الذكر- في تحديد من يفوز بالانتخابات المقبلة. ولذلك، ونحن على بُعد شهرين تقريبا من الانتخابات، من الصعب الجزم بنتيجة محددة، ولكن يمكن رصد العوامل المؤثرة ومدى تفاعل الشارع معها وكيفية سير الحملات الانتخابية، وهي أمور سنتناولها في مقالات قادمة، بإذن الله.
الجزيرة