نظرة واحدة لسياسة فرنسا الحالية تكفي لاكتشاف تعثر إستراتيجيتها في مستعمراتها السابقة وعبر القارة الأفريقية. ودون إصلاح شامل لمنظومتها السياسية والدبلوماسية وطريقة تعاطيها مع المتغيرات الجيوستراتيجية المتلاحقة، ستستمر باريس في فقدان قدرتها على التنافس مع دول استطاعت أن تبرز قدراتها على التواصل بشكل جيد.
الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى دول أفريقية وقبلها الجزائر في أغسطس – آب الماضي، هي محاولة من قبل باريس للتمسك بالسيطرة الاقتصادية والثقافية التي كانت تتمتع بها على مستعمراتها السابقة. وذلك بعد أن أضرت سلسلة من الأخطاء الفادحة المتتالية والآليات السياسية والاقتصادية التي عفا عليها الزمن، بالعلاقات مع المغرب، وإلى حد ما مع الجزائر التي كانت علاقاتها معها توصف بالعميقة.
لهذا، يعتبر إضعاف صورة فرنسا وسلطتها في العالم، خاصة في شمال أفريقيا، ضربة مباشرة لسياستها الخارجية. ولا يزال صدى كلام ستيفان روزيس، رئيس شركة كاب للاستشارات السياسية، قبل 12 عاما، حول تساؤل الفرنسيين عما إذا كانت فرنسا قد فقدت موطئ قدم لها في القضايا الدولية الكبرى منذ أيام نيكولا ساركوزي، يتردد.
حكومة ماكرون اليوم تملك رأس مال سياسي ضئيل وهو ما أفشل كل محاولات الضغط على المغرب للتنازل عن شروط إنهاء الأزمة المتفاقمة
وجاء دفاع ماكرون عن سجل فرنسا في المنطقة سياسيا ودبلوماسيا فوضويا وغير متناسق. فعند النظر إلى تصريحاته الأخيرة المتعلقة بالمغرب، نجد أنه لم يحدد موقفه من ملف الصحراء، ولم يجب على عدد من الأسئلة المرتبطة بالاستفزازات المتكررة والفجة من طرف عدد من المؤسسات الفرنسية الإعلامية والقضائية والسياسية والأمنية تجاه المملكة.
وشهدت العلاقات بين باريس والجزائر نوعا من الأزمة الدبلوماسية، بعد تصريحات ماكرون المتعلقة بتاريخ وجود الجزائر، وأيضا بعد فرض فرنسا قيودا أكثر صرامة على حصص التأشيرات للجزائريين، وبعد تعليقات سلبية صدرت عن ماكرون تم استدعاء سفير الجزائر في فرنسا، وحظرت الجزائر مجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية.
أما على المستوى الثقافي فقد ظهر التأثير الضعيف لفرنسا بشكل جلي خلال زيارة ماكرون الأخيرة إلى الجزائر، حيث لوحت الحكومة الجزائرية بأنه سيتم اعتماد اللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية في البلاد، وسط جدل في عموم المنطقة حول الدور المستقبلي للغة الفرنسية.
في المقابل لا يخفى تزايد التنسيق الجزائري – الروسي بخصوص الوضع الأمني في منطقة الساحل وشمال أفريقيا، ويتزامن ذلك مع اعتراف تركيا السريع بقادة انقلاب مالي عام 2020، ما يؤشر إلى دور أنقرة المتنامي في الشؤون العسكرية في غرب وشمال أفريقيا، خصوصا مع فشل فرنسا في حملتها العسكرية في مالي، سنة 2013 في عملية سرفال، ومن بعدها عملية برخان، ليعلن ماكرون في يونيو 2021 الانسحاب التدريجي للقوات الفرنسية، وذلك في أعقاب تزايد الحركات المناهضة للفرنسيين بين سكان الساحل.
كاريكاتير
لطالما كانت العلاقات بين فرنسا والجزائر معقدة لأسباب تاريخية، ولفهم سبب ذلك، نقول إنّ الجزائر كانت تعتبر خلال الاحتلال جزءا من فرنسا، وهو ما دفع الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون إلى الإصرار على أن بلاده قوة إقليمية تملك مفاتيح سيادتها. ولإثبات ذلك لم تتردد الجزائر في الارتماء بأحضان الروس والأتراك دون قيد أو شرط، والتعاون معهما في مجال الأسلحة بشكل خاص، وفسح المجال لهما للتغلغل في المنطقة.
الهدف الذي تسعى إليه الجزائر هو تحويل المنطقة إلى ساحة صراع دولي، نكاية بفرنسا والمغرب الذي تريد منعه من القيام بأدواره الريادية على المستوى الإقليمي. وهو ما دفع النظام الجزائري إلى المسارعة بإقرار المواد الدستورية الجديدة المتعلقة بإعطاء رئيس الجمهورية صلاحية اتخاذ القرارات المتعلقة بإرسال قوات جزائرية للمشاركة في مهام حفظ السلام خارجيا. وهي خطوة اعتبرها مراقبون نهجا مغايرا لما سبق، في ضوء العلاقات مع فرنسا والتطورات بمنطقة الساحل والصحراء بشكل خاص.
جهود الإصلاح التي باشرتها دول أفريقية ومنها المغرب، عكست الاستياء المتزايد تجاه السياسات الاقتصادية الفرنسية في مستعمراتها السابقة باستغلال الشركات كأداة للحكومات الفرنسية المتتالية.
الرئيس ماكرون حمل العبء السياسي لفترة الاستعمار الذي فرضته دولته لعقود طويلة على بلدان شمال وغرب أفريقيا، واليوم لم يعد ممكنا الاستمرار في نفس النهج، وفي الوقت نفسه لا يمكن لماكرون أن ينجح في تجاوز معضلة عدم تطوير أدوات السياسة الخارجية لبلده.
جهود الإصلاح التي باشرتها دول أفريقية ومنها المغرب، عكست الاستياء المتزايد تجاه السياسات الاقتصادية الفرنسية في مستعمراتها السابقة
الأمر بالنسبة إلى فرنسا لم يعد مجرد تجارة أو عاطفة. المشكلة هي كيفية الحفاظ على موقعها بعد أن أصبح تواجدها بالمنطقة وفي القارة الأفريقية بشكل عام غير مرحب به، خصوصا أنها لا تحمل أي مشروع تنموي أو استثماري بعيد عن النظرة الاستعمارية التي تشبع بها منظروها وسياسيوها وبيروقراطيوها ويجدون اليوم صعوبة في تجاوزها.
بالعودة إلى علاقات الجزائر مع فرنسا، تميزت فترة إدارة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة بالتقارب مع باريس، وظل الأمر على هذا المنوال إلى حدود انفجار الحراك الشعبي واستقالة بوتفليقة، لتظهر الإدارة الجديدة مع عبدالمجيد تبون ورئيس أركانه السعيد شنقريحة رغبة في الخروج من مظلة التبعية الفرنسية، واستبدالها بالتقارب الإستراتيجي الكبير مع موسكو وإلى حد ما مع تركيا.
بفشلها في استشراف ما يحدث اليوم، مهدت باريس الطريق أمام موسكو للاستفادة من الفرصة المتاحة للتقرب من الجزائر في منطقة تشهد تغيرات دائمة. فمع الحرب الأوكرانية – الروسية والسياسة الخارجية المضطربة للفرنسيين في المنطقة، اجتهدت الجزائر في لعبة الولاءات وسياسة المحاور للارتماء في أحضان الروس.
وعلى العكس من تصريحات ماكرون وتصرفات إدارته، تشهد التفاعلات الجزائرية – الروسية المزيد من التقدم على مستويات متعددة، مع دعم موسكو النهج الذي تتبعه الجزائر في الشؤون الدولية والإقليمية. وتعتبر الجزائر اليوم أكبر مستورد للأسلحة الروسية في أفريقيا.
في الجهة الأخرى من الصورة، تدهورت العلاقة بشكل واضح بين الرباط وباريس، عندما قرر الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء المغربية، وهو القرار الذي لم ينل نصيبه من التأييد الفرنسي، وأبانت باريس عن أنيابها ضد مصالح ومؤسسات المملكة، وغازلت الجزائر مستعملة رصيدها من وسائل الترغيب والإكراه، رغبة منها في مراقبة المغرب والضغط عليه، لكن يبدو أن المرآة الفرنسية انكسرت وعجزت سياسة الإليزيه عن مجاراة الأحداث.
حكومة ماكرون اليوم تملك رأس مال سياسي ضئيل وهو ما أفشل كل محاولات الضغط على المغرب للتنازل عن شروط إنهاء الأزمة المتفاقمة. وإذا كان الرئيس الفرنسي قد زار الجزائر وبعدها دولا أفريقية أخرى لاستعادة شيء من ذلك الرأسمال، إلا أنه اصطدم بمواقف المغرب الثابتة، فراح يصرح يمينا ويسارا بأن علاقاته جيدة مع القصر الملكي، متحدثا عن زيارة قريبة إلى الرباط، لم تأت، ولن تتم دون إبراز حسن النية وإعادة بناء الثقة وتغيير النظرة لطبيعة العلاقات والتموقعات.
العرب