أخيراً، أعلنت أحزاب المعارضة التركية، المنضوية تحت مظلة “الطاولة السداسية”، ترشيح زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كلجدار أوغلو، للانتخابات الرئاسية التي ستجري في 14 مايو/أيار المقبل، حسبما أعاد الرئيس التركي، أردوغان، التأكيد عليه، على الرغم من أن تركيا ما تزال تعاني من تداعيات الزلزال الذي ضرب مناطق واسعة في جنوبها، وفي شمالي سورية، وخلّف كارثة إنسانية كبرى. وواكب الترشيح لغطٌ وضجيجٌ كثيران في أوساط المعارضة التركية، خصوصا مع إعلان زعيمة “الحزب الجيد”، ميرال أكشنر، انسحابها من تحالف أحزاب “الطاولة السداسية”، وأبدت اعتراضاً علنياً على اعتزام باقي أحزاب الطاولة ترشيح كلجدار أوغلو، لخوض الانتخابات الرئاسية، ثم ما لبث أن عدلت عن قرارها، وعادت إلى الطاولة، وحضرت اجتماعها الذي انتهى إلى إعلان هذا الترشيح.
إذا جرى تلافي الصدع الذي أحدثته أكشنر في تحالف المعارضة، ولو مؤقتاً، ولم تعد ترفض ترشيح كلجدار أوغلو، مقابل قبوله تسويةً، اشترطت فيها تعيين رئيسي بلديتي أنقرة، منصور ياواش، وإسطنبول، أكرم إمام أوغلو، نائبين له في حال فوره، لكن هذه التسوية تشي، في المقابل، باختيار تحالف الطاولة السداسية وقادته التقليل من شأن خلافاتهم بشأن الهوية والأيديولوجيا والسياسة لأسباب انتخابية، تكتيكية وعملية، إلا أنها لا تحجب الخلافات الأيديولوجية الكبيرة بين أحزاب المعارضة، وإمكانية حدوث تصدّعات أخرى بينها، وهو ما يراهن عليه حزب العدالة والتنمية (الحاكم) والرئيس أردوغان.
تقف جملة من العوامل وراء عودة أكشنر إلى التحالف السداسي، أهمها أن إمام أوغلو وياواش لم يمضيا في الطريق الذي رغبت فيه، بل أعلن كلاهما تأييده ترشيح كلجدار أوغلو، بوصفه رئيس الحزب، المنتميان إليه، الأمر الذي أضعف موقف أكشنر، أو بالأحرى جعلها في موقفٍ لا تُحسد عليه، وكان ينذر بأن تدفع ثمن موقفها وحدها، إضافة إلى أنه سيُفقدها القدرة على تحقيق ما كانت تصبو إليه، سواء فيما يتعلق بتحقيق آمالها في الوصول إلى مناصب سياسية، أو فيما يخصّ مستقبلها، ومستقبل حزبها، ضمن الصف المعارض لحزب العدالة والتنمية، فضلاً عن اهتزاز ثقة الأحزاب التركية فيها، بعد أن انقلبت على أحزاب الطاولة المتحالفة معها منذ أكثر من عام، وكانت ركناً رئيسياً فيه.
قد يكون الرئيس أردوغان من أكثر المستفيدين من أن يصبح كلجدار أوغلو منافساً له في الانتخابات المقبلة
قد يكون الرئيس أردوغان من أكثر المستفيدين من أن يصبح كلجدار أوغلو منافساً له في الانتخابات المقبلة، لاعتقاده أن الأخير يفتقد القدرة على النيْل منه، وأنه سيهزمه فيها. وسبق أن تحدّاه، ودعاه، في أكثر من مناسبة، إلى المنافسة معه، إلا أن ذلك لم يحدُث، وبالتالي فإن ترشّح كلجدار أوغلو يشير إلى أن الانتخابات المقبلة ستشهد منافسة حامية بين الزعيمين، لأن نتائجها ستحدّد، ليس مستقبلهما السياسي فقط، بل مستقبل الدولة التركية.
وعلى الرغم من أن من المبكّر التكهن بمن سيفوز بمعركة الانتخابات الرئاسية، مع تضارب نتائج استطلاعات الرأي التي تنشرها مراكز الأبحاث التركية، بشأن آراء الناخبين ووجهات نظرهم بشأن الوضع العام، إضافة إلى عدم اتّضاح الصورة النهائية للاصطفافات والتحالفات الحزبية، خصوصا وأن حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يعتبر القوى الحزبية الثالثة في البلاد، لم يُعرف بعد فيما إذا كان سيدخل الانتخابات بمرشحٍ مستقلّ أم أنه سيدعم ترشيح كلجدار أوغلو، حسبما تزعم قيادات في أحزاب المعارضة. وفي حال تأكيد ذلك، ستتوسع جبهة المعارضة ضد الرئيس أردوغان، بالنظر إلى أن نسبة تأييد هذا الحزب في أوساط الناخبين الأتراك، ومعظمهم من الأكراد، تتجاوز 10%، وهي نسبة قادرة على إحداث الفرق في أي انتخابات. وظهر تأثيرها الحاسم في الانتخابات البلدية عام 2019، وخصوصا فوز إمام أوغلو في رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى.
يركّز أردوغان في خطابه الانتخابي على إرثٍ كبير من إنجازات اقتصادية واجتماعية
إذاً، الأمر مرهونٌ بتوفر مزيد من المؤشّرات والمعطيات لمعرفة خريطة الكتل الانتخابية الداعمة لكل من أردوغان وكلجدار أوغلو، ورسم صورة واضحة للمشهد السياسي التركي مع اقتراب موعد الانتخابات، خصوصا وأن تغير التحالفات الانتخابية سمة مميزة للسياسة الحزبية التركية في السنوات الماضة، وتتوفر أسباب داخلية عديدة لمواصلة المنافسة بين تحالف الشعب، الذي يضم حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، وبين تحالف الطاولة السداسية (الشعب الجمهوري، والحزب الجيد، والسعادة، ودواء، والمستقبل، والحزب الديمقراطي)، ولسعي كلا التحالفين إلى المحافظة على جمهوره الانتخابي، وفي الوقت نفسه، كسب نسبة من مؤيدي التحالف الآخر واستمالتهم إلى كفته.
يركّز أردوغان في خطابه الانتخابي على إرثٍ كبير من إنجازات اقتصادية واجتماعية حققها في السنوات السابقة، فيما يركّز كلجدار أوغلو على اتهام منافسه بالفشل في إدارة الأزمات في تركيا، وخصوصا ملف الزلزال، والسياسة الاقتصادية، وتردّي الأوضاع المعيشية لغالبية الأتراك وسوى ذلك. ويحاول كلاهما استمالة أصوات الناخبين، لكن الأمر يتوقّف على اعتبارات وعوامل عديدة، أهمها طبيعة التحالفات السياسية التي ستشهدها تركيا في المرحلة المقبلة، وعلى تطوّر الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي تمسّ حياة الناخبين الأتراك. وفيما تحاول قيادة حزب العدالة والتنمية (الحاكم) التقليل من حجم الأزمة، فإن المعارضة، المدمنة على مناكفة سياسات أردوغان ومناهضتها، لا تعير أي اهتمام للأمر، وتمضي في مناقشة الخطوات التي تمكّنها من الفوز في الانتخابات المقبلة التي يصفها كل من أردوغان وكلجدار أوغلو بـ”الحاسمة والمصيرية”.
العربي الجديد