توقف الكثير من المحللين عند نقطة رئيسية في استئناف العلاقات بين إيران والسعودية، ألا وهي رعاية الصين لهذا الاتفاق التاريخي الذي أنهى سبعة أعوام من القطيعة، في إشارة واضحة إلى القوة المتزايدة لبكين في الشرق الأوسط، ليس فقط على مستوى النفوذ الاقتصادي، ولكن على المستوى الدبلوماسي لتزاحم بذلك نفوذا تاريخيا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
ولطالما كان يُنظر إلى الصين على أنها مترددة في الانخراط في المستنقع الشائك لدبلوماسية الشرق الأوسط، وأنها تتجنب الاشتباك الدبلوماسي مع الولايات المتحدة ما قد يعرقل نفوذها الاقتصادي المتزايد، خاصة في ظل اتفاقيات كبيرة مع السعودية والإمارات وزيارات على أعلى مستوى، وميل الخليجيين إليها كورقة ضغط على واشنطن، وتأكيد قويّ على امتلاكهم بدائل للرد على ضغوط الأميركيين.
وظهر الارتباك على الموقف الأميركي من الاتفاق، حيث قالت واشنطن إنها كانت على علم بمسار الحوار، لكنها لم تكن طرفا فيه. كما أنها شككت في مدى التزام إيران به.
وقد تكون الصدمة الأميركية مزدوجة من هذا الاتفاق، والوجه الأول لهذه الصدمة هو الدخول القوي للصين في منطقة محسوبة تاريخيا على نفوذ واشنطن. أما الوجه الثاني فهو انخراط السعودية في حوار مع إيران، وهو ما يهدد بسحب أهم ورقة ضغط أميركية على دول الخليج، وتقوم على التخويف من الخطر الإيراني.
ويعرف الأميركيون أن أحد أسباب الاندفاعة السعودية نحو إيران هو الرد على الابتزاز الأميركي بشأن منظومة الصواريخ الدفاعية. كذلك، وجد السعوديون أن واشنطن التي تخوّفهم من طهران هي نفسها تعمل على الاتفاق معها.
ويرى المحللون أن الرعاية الصينية للاتفاق السعودي – الإيراني تظهر مدى الخطر الإستراتيجي الذي يتهدد موقع واشنطن في الخليج من حليف وحيد إلى شريك من جملة شركاء.
وقال الخبير السعودي المقرّب من مركز القرار في الرياض علي الشهابي “الصين الآن هي عرّاب هذه الاتفاقية وهذا له وزن كبير”.
كذلك رأى الباحث في معهد المجلس الأطلسي جوناثان فولتون أن الاتفاق يشير إلى أن الصين مستعدة للقيام بدور أكبر في المنطقة.
وقال “قد تكون هذه علامة على ثقتها المتزايدة في وجودها الإقليمي، وقد تكون علامة على أنها تعتبر أن ثمة مجالا لتحدي الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط. على أي حال، يبدو أنه انتصار دبلوماسي للصين وخروج مهم عن نهجها الإقليمي”.
وبحسب حسين إبيش، الباحث المقيم البارز في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، فإن هذا الأمر سيثير بلا شك أسئلة في واشنطن، التي تقيم شراكة معقدة منذ عقود مع الرياض.
وأفرد الكثير من الصحف الأميركية مساحات للوساطة الصينية وما تحمله من دلالات، في مقدمتها تعاظم الدور الصيني اقتصاديا وسياسيا في الشرق الأوسط، على حساب ضعف النفوذ الأميركي في تلك المنطقة، حسبما رأت صحيفة “نيويورك تايمز”.
◙ الحوار بين السعودية وإيران، يهدد بسحب ورقة ضغط أميركية على دول الخليج تقوم على التخويف من الخطر الإيراني
وفي بيان الإعلان عن هذا الاتفاق، أبرزت السعودية الدور الذي اضطلعت به الصين وبمبادرة من الرئيس شي جين بينغ “لتطوير علاقات حسن الجوار” واستضافة بلاده مباحثات بين الطرفين خلال الفترة من (6 – 10 مارس) برئاسة مساعد بن محمد العيبان مستشار الأمن الوطني في المملكة، وعلي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني.
وركزت صحيفة “واشنطن بوست” على دور الوساطة الذي قامت به بكين بالنسبة إلى الاتفاق الذي تضمن الموافقة على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران “وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهران”، فضلا عن الاتفاق على عقد لقاء بين وزيري خارجية البلدين قريبا “لتفعيل ذلك وترتيب تبادل السفراء ومناقشة سبل تعزيز العلاقات بينهما”، كما نص الاتفاق على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقعة بينهما عام 2001، وكذلك اتفاقية اقتصادية موقعة عام 1998 .
ووصفت الصحيفة هذا التطور بأنه “اختراق كبير لتنافس مرير لطالما قسم الشرق الأوسط”، ولفتت إلى فشل محاولات إدارة الرئيس باراك أوباما إصلاح العلاقات بين السعودية وإيران، الذي كان يرى أن الصراع بينهما يمثل “مصدرا للتوتر الطائفي في المنطقة”.
ونقلت الصحيفة عن جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، ترحيب الولايات المتحدة بالاتفاق، مع التأكيد على أن واشنطن “لم تكن طرفا مباشرا” فيه.
واعتبر كيربي أنه ما زال مبكرا الحكم على صمود هذا الاتفاق وأنه “يبقى أن نرى ما إذا كان الإيرانيون سيلتزمون به… هذا ليس نظاما يفي بكلمته، لذا نأمل أن يفعلوا (هذه المرة). نرغب في أن تنتهي الحرب في اليمن”.
وأشارت الصحيفة إلى تمتع اليمن بـ”توقف نادر” للقتال منذ أبريل الماضي بعد تطبيق هدنة توسطت فيها الأمم المتحدة، على الرغم من انتهاء سريانها في أكتوبر الماضي، وتحدثت الصحيفة كذلك عن استئناف “قنوات الحوار الخلفية” بين الحوثيين والجانب السعودي.
ونقلت “واشنطن بوست” عن ميساء شجاع الدين، الباحثة البارزة في مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية أن هذه المحادثات “انعكاس أيضا للتقارب السعودي – الإيراني”.
من ناحية أخرى، علقت السفارة اليمنية في واشنطن على الاتفاق بالقول “لا يزال النظام الإيراني المارق يرسل أسلحة فتاكة لميليشيا الحوثي الإرهابية في اليمن، والسفارة اليمنية في طهران لا تزال محتلة”.
بالمقابل بدا موقف الحوثيين مرحبا بالاتفاق، حيث غرد المتحدث باسمهم محمد عبدالسلام على تويتر قائلا “المنطقة في حاجة إلى عودة العلاقات الطبيعية بين دولها، تسترد بها الأمة الإسلامية أمنها المفقود نتيجة التدخلات الأجنبية”.
وأشارت “واشنطن بوست” إلى تقارب سعودي – إيراني منذ عام 2021، من خلال جولات محادثات استضافها العراق وسلطنة عمان.
ورأت الصحيفة أن التركيز على الدور الذي قامت به الصين في هذا الاتفاق ربما يستهدف توجيه رسالة إلى القوى العظمى، ومن بينها الولايات المتحدة، “مفادها أن محور الشرق الأوسط يتغير”، حسبما ذكرت ماريا لويزا فانتابي المستشارة الخاصة لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز الحوار الإنساني بجنيف.
واستشهدت الصحيفة بوصف إدارة الرئيس جو بايدن لتعاظم دور الصين بأنه “أكبر تحد جيوسياسي للقرن الـ21”.
واعتبرت كاميل لونس، الباحثة في مكتب الشرق الأوسط بالمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، أن دور الصين “مفاجئ جدا حتى للمحللين الصينيين”.
وأضافت أن بكين لطالما تجنبت التدخل سياسيا في الشرق الأوسط، مع التركيز بدلا من ذلك على العلاقات الاقتصادية، مشيرة إلى أن الاتفاق يبعث برسالة رمزية “قوية جدا” نظرا لتوقيعها قبل أيام فقط من الذكرى العشرين للغزو الأميركي للعراق.
التركيز على الدور الذي قامت به الصين في الاتفاق يستهدف توجيه رسالة إلى واشنطن مفادها أن محور الشرق الأوسط يتغير
من جانبها، قالت كريستين سميث ديوان من معهد دول الخليج العربية بواشنطن إن الصين حلت حقا كـ”لاعب إستراتيجي في الخليج”.
وفي سياق متصل، ركزت صحيفة “نيويورك تايمز” على ما أعلنه كبير الدبلوماسيين الصينيين وانج يي في بيان على موقع وزارة الخارجية الصينية تعقيبا على الاتفاق، وتأكيده أن بكين قامت بدور رئيسي في استئناف العلاقات بين الرياض وطهران.
ووصف الدبلوماسي الصيني البارز هذا التطور بأنه “انتصار للحوار، انتصار للسلام، وخبر إيجابي كبير للعالم المضطرب بشدة حاليا، ويرسل إشارة واضحة”.
وبعيدا عن حسابات الصين والولايات المتحدة ومصالحهما، يرى مراقبون أن الاتفاق السعودي – الإيراني ربما يضع نهاية لسنوات من الخلافات بين قوتين لهما ثقلهما في المنطقة، الأمر الذي قد يخمد نار صراعات لم تعد دول الإقليم تتحمل تبعاتها في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وذلك ما لم يكن لقوى عظمى أخرى رأي مغاير.
صحيفة العرب