في ظل ما هو دائر من تنافس صراعي على قمة النظام الدولي تتشعب أوجهه لتطال قضايا كثيرة من بينها أدوات القوة العسكرية ضمن منظور القوة الشاملة، ومع اعتبار القوى الكبرى والعظمى السلاح النووي مكوناً جوهرياً ضمن منظومة التسلح، وعلى ضوء إدراك الولايات المتحدة المتنامي لما تعتبره تهديداً صينياً لما تسميه النظام الدولي القائم على القواعد، يستمر التحول الأمريكي نحو الاهتمام المتزايد ليس فقط بكل ما يصدر عن الصين من سياسات، وإنما بالمناطق المحيطة بها.
وإذا كانت الولايات المتحدة مستمرة منذ سنوات ومعها دول أخرى على رأسها اليابان في التشكيك في شفافية الانفاق العسكري الصيني، فإنها دأبت على التحذير من تنامي القدرات النووية الصينية، واعتبار الأمر تهديداً يستدعي التعامل معه.
وللصين منطقها في الرد على الولايات المتحدة الذي ينطلق من أن الأخيرة هي المصدر الرئيسي للتهديد النووي في العالم. ليست الصين وحدها من تقدم تلك القراءة لما تمتلكه واشنطن من قدرات نووية، وإنما تشاطرها في ذلك دول أخرى مثل كوريا الشمالية.
وفي المقابل، فإن كلاً من اليابان وكوريا الجنوبية تتمتعان بحماية المظلة النووية الأمريكية. وبما أنهما تتمتعان بهذا الوضع فلا يمكن توقع توجيه انتقادات مباشرة للسياسة النووية الأمريكية، بل إن العكس هو الذي قد يحدث، وقد حدث بالفعل في مناسبات مختلفة، من بينها ترحيب اليابان بوثيقة المراجعة النووية الأمريكية في عام 2018.
تلك الإدراكات المتعارضة للقدرات النووية الأمريكية في منطقة من أكثر مناطق العالم توتراً تنبني على مسلمات تنطلق منها كل دولة من تلك الدول الأربع. فما هي أبرز تلك المسلمات؟، ولماذا تتفاوت إلى حد التناقض بين كل من الصين وكوريا الشمالية من ناحية واليابان وكوريا الجنوبية من ناحية أخرى؟، وما الذي يجعل المعارضة شديدة من قبل كل من بكين وبيونج يانج على عكس الترحيب من طوكيو وسول؟.
وبعبارة أخرى، لماذا يحدث هذا الاتفاق بين كلتا الدولتين في الحالتين؟، وما الذي يترتب على تلك الإدراكات المتعارضة في الجبهتين والمتقاربة في كل جبهة؟.
مظلة حماية
بالنسبة لكل من اليابان وكوريا الجنوبية، فإن السلاح النووي الأمريكي هو مصدر حماية. فكلا البلدين من بين الدول التي ترخي عليها واشنطن مظلتها النووية في ظل العلاقة التحالفية التي تجمع كل منهما بواشنطن على مدار عقود.
ولدى كل منهما قواعد عسكرية أمريكية، وقوات أمريكية كبيرة. وإذا كان ذلك قد ارتبط بتطورات تعود إلى نهايات الحرب العالمية الثانية، وما خلفته من هزيمة يابانية ساحقة، أدت فيما بعد لأن يتحالف الطرفان المتحاربان، وكذلك ما آلت إليه تلك الحرب في شبه الجزيرة الكورية من تقسيم ما زال ماثلاً حتى اليوم ويتعمق عبر السنين، وقد خُضِّب هذا التقسيم بالدم في حرب طاحنة استمرت لثلاث سنوات بداية خمسينيات القرن العشرين، فإن حالة الحرب ما زالت قائمة فعلياً في شبه الجزيرة الكورية، حيث وضعت الحرب أوزارها باتفاق للهدنة، ولم تعقد بعد اتفاقية للسلام.
وهنا، فإن ثمة أمرين مهمين فيما يتعلق بالسلاح النووي: أولهما، ينصرف إلى أن اليابان قد تعرضت لويلات السلاح النووي الأمريكي في أغسطس عام 1945 في كل من هيروشيما وناجازاكي. ومع ذلك، تحول هذا السلاح إلى مصدر حماية لاحقاً.
ما عانته اليابان جعلها من الدول التي تصر على ضرورة تخلي العالم عن السلاح النووي، وكثيراً ما ساهمت في تقديم مشاريع قرارات دولية بهذا المعنى. ومع ذلك، تجدها مرحبة بالمظلة النووية الأمريكية.
وثانيهما، يرتبط بتوسع دائرة المخاوف لدى كل من اليابان وكوريا الجنوبية من القدرات النووية لدى دول “معادية”، فلم يعد الأمر مرتبطاً بحسابات وتحالفات الحرب الباردة، عندما كان هناك معسكران كبيران، على رأس أحدهما واشنطن والآخر تقوده موسكو، وإنما دخل متغير جديد بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب الباردة.
هذا المتغير يتمثل في البرنامج النووي الكوري الشمالي، والذي كانت هناك محاولات لاحتوائه باءت كلها بالفشل. وأصبحت كوريا الشمالية تمتلك ذلك السلاح، ومستمرة في تطوير أدوات إيصاله على كل المستويات. وحتى المفاوضات التي أجريت بهذا الخصوص سواء على الصعيد الثنائي أو متعدد الأطراف توقفت تماماً، وانتقلت الأمور إلى مستوى أكثر تعقيداً.
هذا التعقيد يزيد من حاجة كل من اليابان وكوريا الجنوبية للحماية الأمريكية بجميع مستوياتها. كما أن الولايات المتحدة ذاتها باتت أكثر إصراراً على تكثيف تواجدها في المنطقة في إطار استراتيجيتها لمنطقة المحيطين الهادي والهندي. فهل سيدفع ذلك بأي منهما أو كليهما لامتلاك السلاح النووي؟، وهل ستسمح واشنطن بذلك؟.
مصدر تهديد
في الثالث من مارس الحالي (2023)، اعتبرت المتحدثة باسم الخارجية الصينية ماو نينج الولايات المتحدة المصدر الرئيسي للتهديد النووي في العالم. وهذه ليست المرة الأولى التي تقول الخارجية الصينية هذا الكلام. وهذا الموقف الصيني دائماً ما كان يأتي رداً على تصريحات ووثائق أمريكية تتناول القدرات النووية الصينية، وما تمثله من تهديدات من وجهة النظر الأمريكية.
وفي الحالة الأخيرة، فإن الموقف الصيني جاء رداً على تصريحات لمساعدة الرئيس الأمريكي لشئون الأمن الداخلي اليزابيث شيروود راندال، حيث اعتبرت الخارجية الصينية أن تصريحات المسئولة الأمريكية فيما يتعلق بالتهديد النووي الصيني ما هي إلا ذريعة لزيادة التوسع في الترسانة النووية الأمريكية واستمرار الهيمنة العسكرية، داعية واشنطن إلى إعادة التفكير في مجمل سياستها النووية، وأن تفي بمسئولياتها على صعيد نزع السلاح النووي، ليس هذا فحسب بل ودعوتها لكي تقلل من دور تلك النوعية من الأسلحة من أجل المحافظة على الاستقرار الاستراتيجي ليس فقط على الصعيد الإقليمي وإنما العالمي أيضاً.
لا تكتفي الصين بذلك، بل إنها وفي أكثر من مناسبة تُذكِّر واشنطن بأنها صاحبة أكبر ترسانة نووية في العالم، وأنها لم تف بتعهداتها الدولية على صعيد ضبط التسلح ومنع الانتشار النووي، وتقوم بتأسيس تحالفات شبيهة بتحالفات الحرب الباردة، معتبرة أن عقلية الحرب الباردة باتت مسيطرة على السياسة الأمريكية، وأن مجمل التصرفات الأمريكية تلك تزيد من المخاطر النووية بما فيها الحرب النووية، والتي تهدد الأمن الدولي برمته.
الصين أيضاً لا تقف عند مجرد التوصيف للسلوك الأمريكي على الصعيد النووي ضمن توصيفها لمجمل ما تقوم به واشنطن، وإنما تؤكد على الطبيعة الدفاعية لسياستها النووية، مبينة أنها تعتمد سياسة عدم البدء باستخدام تلك الأسلحة على عكس ما هو معتمد لدى واشنطن، وأن قدراتها النووية تظل في الحد الأدنى المطلوب لحماية أمنها القومي، كما أنها ملتزمة بعدم استخدام السلاح النووي ضد الدول غير النووية. ومن ثم فإنها توصف منهجها هذا بالمتوازن والعقلاني والمنسق، مطالبة الولايات المتحدة بالتصرف بمسئولية، وأن تتعامل بموضوعية وعقلانية مع ما تقوم به الصين.
من جانبها، فإن كوريا الشمالية دأبت على القول بأن التهديد الأمريكي هو الدافع لسلوكها النووي، بدءاً من التفكير في امتلاك هذا السلاح، ومن ثم الامتلاك الفعلي، وتدعيم قدراتها على هذا الصعيد، وتحول موقفها إلى عدم التخلي مطلقاً عن رادعها النووي، ومن ثم الوصول إلى صياغة عقيدتها النووية الخاصة بها. فبيونج يانج ترى أن السياسة الأمريكية تجاهها سياسة عدائية، تترجم في الأقوال والأفعال معاً، ومما تسوقه في هذا السياق ما يوصف به نظامها السياسي أمريكياً، وما تنعت به قيادتها، ومن ثم وضعها في التقارير الأمريكية مثل تقارير أوضاع حقوق الإنسان، والحريات الدينية، والدول الراعية للإرهاب، وسلسلة العقوبات الطويلة، ودفع مجلس الأمن الدولي لفرض عقوبات، واستمرار المناورات العسكرية التي تستهدفها، وجلب الأصول الاستراتيجية الأمريكية بما فيها ذات القدرات النووية إلى محيطها.
وتذهب كوريا الشمالية إلى أن طريقة التعامل الأمريكية مع أطر نزع السلاح في العالم مدمرة، ومهددة للأمن الدولي، خاصة وأنها تتصرف بمنطق الهيمنة والاحتواء. مثل هذه التوصيفات ليست ببعيدة عن مضامين التوصيفات الصينية، بل إنها في الحالة الكورية الشمالية غالباً ما تكون أكثر حدة.
مترتبات على المدركات
في ظل هكذا إدراكات تأتي الاستجابات متناسقة. ففي الوقت الذي تحرص فيه اليابان وكوريا الجنوبية على استمرار المظلة النووية الأمريكية، وترحبان بالدور الأمريكي في المنطقة، فإن كلاً من الصين وكوريا الشمالية تنظران إلى الدور الأمريكي في المنطقة نظرة سلبية. ولا يقف الأمر عند مجرد الترحيب أو النقد. وإنما يكون هناك انخراط ولو بدرجات متفاوتة من قبل كل من طوكيو وسول في الترتيبات الأمريكية في المنطقة. والملاحظ أنه في الحالة الكورية الجنوبية قد يوجد تفاوت من فترة زمنية إلى أخرى في درجة التماهي مع ما تريده الولايات المتحدة. إذ أنه في الفترات التي يكون صانع القرار أكثر حرصاً على التواصل مع كوريا الشمالية يكون هناك فرملة لبعض الإجراءات حتى ولو على صعيد التقليل وليس الإلغاء مثل التدريبات العسكرية التي يقل عددها ويضيق مداها كما حدث في فترة حكم الرئيس السابق مون جي ـ إن.
في المقابل، فإن موقفي الصين وكوريا الشمالية الرافضين للسلوك الأمريكي يجعلها ناقدين لذلك السلوك ساعين إلى التغلب على ما يريانه أضراراً ناتجة عنه. ومن ثم يسعى كل منهما لحيازة ما يعتبره ضمانة لأمنه القومي، وردعاً للولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، تبرز أكثر من إشكالية. أول هذه الإشكاليات هو ما يتعلق بمدى الاتساق بين ما تطرحه الدول من السعي إلى إخلاء العالم من السلاح النووي، بينما تأتي التصرفات معاكسة، سواء كان ذلك بالاحتفاظ بما هو موجود من ترسانة، أو زيادتها وتطويرها، أو حتى الترحيب بذلك، ويندرج في هذا السياق الصمت على هذا الأمر. وهنا، سنجد أن تلك الإشكالية تطال كل الدول المعنية بالتحليل هنا.
الإشكالية الثانية ترتبط بما يقال إنه ضرورة لحماية الأمن القومي. مثل هذه الضرورة لا سقف عليها ابتداءً، ومن ثم فإنها مرتبطة بما تدعيه الدول الأخرى من ضرورات. وهذا قد يؤدي إلى متوالية سباق التسلح، وسباق التسلح هنا ليس سباقاً تقليدياً، ونتائجه كارثية على الجميع. وهذا ينقل التحليل إلى الإشكالية الثالثة وهي المرتبطة بالسياق العالمي لهذه القضية خاصة منذ بدأت الحرب في أوكرانيا. إذ تزايد الحديث عن القدرات النووية وتحديثها، وكثرت المناورات المرتبطة بتلك النوعية من الأسلحة، بل وتكثفت التصريحات فيما يتعلق بإمكانية الاستخدام الفعلي لهذه الأسلحة.
هذا الأمر يأتي من قبل قوى نووية من المفترض أنها قائمة على النظام الدولي لمنع الانتشار، ومن المفترض أنها تسعى لبث الطمأنينة لدى الدول غير النووية، ومن المفترض أن تلتزم بالاتفاقيات والإعلانات الدولية، الثنائية منها والجماعية. لكن الحادث عكس ذلك، ومن ثم فالنتائج كارثية على صعيد الانتشار النووي. يحتاج العالم إلى خطوات إضافية لتقليل الترسانات النووية وصولاً إلى التخلص منها على المدى البعيد. وعبء هذا يقع بالأساس على القوى الخمس النووية التي باتت تدخل في مماحكات نووية أكثر من دخولها في مباحثات نووية. وها هي تلك النوعية من المماحكات تحل محل المباحثات تقريباً في واحدة من أكثر مناطق العالم توتراً في شمال شرقي آسيا.
مركز الأهرام للدراسات