خرائط النفوذ والتوسع الاقتصادي والجيو – سياسي، التي باتت سمة الانفتاح الصيني الراهن نحو الشرق الأوسط وأفريقيا وأجزاء من أمريكا اللاتينية، لم تعد الموضوع الأكثر اجتذاباً للعديد من المراقبين لأنها ببساطة اتخذت من الأنساق الصريحة الواضحة ما يجبّ أية حاجة إلى التدقيق أو التعليل. في المقابل، صار المراقبون أنفسهم أكثر انشغالاً بتشخيص المعادلة، الطردية على أكثر من وجهة وميدان، بين تصاعد الحضور الصيني وانحسار نظيره الأمريكي. ولا يُلام هؤلاء إذا عقدوا مقارنة بين زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى السعودية أواخر العام 2022، وزيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المملكة صيف ذلك العام: الطبول والزمور ورؤوس العائلة للاحتفاء بـ»العملاق الآسيوي» الصاعد، والبرود والجفاء وبروتوكول الدرجة الثانية في استقبال رئيس القوة الكونية العظمى و«الحليف التاريخي» وقائد جيوش درع الصحراء وعاصفتها.
وجهة ثانية لمقاربة هذه المعادلة، طردياً أيضاً ولكن من زاوية التسلّح وما يُسمى «ميزانيات الدفاع» التي لا تعني سوى الهجوم؛ تتمثل في المقارنة بين ما تخصصه واشنطن للجيوش والقواعد والانتشار العسكري، مقابل مخصصات بكين:
ـ في الولايات المتحدة، 817 مليار دولار أمريكي مصاريف «الدفاع»، أكثر من الدول التسع التالية، مجتمعة، على نطاق عالمي؛ من دون احتساب 300 مليار للمحاربين القدماء، و115 مليار للمتقاعدين، و80 مليار مخصصة لبند «الخدمات السرية»، و60 مليار للأمن الداخلي.
ـ الصين، صحيح أنها ثاني أكبر ميزانية عسكرية عالمياً، لكنها لا تتجاوز 224 مليار دولار؛ ليس من دون احتساب الحقيقة الديمغرافية التي تشير إلى أنّ البلد هو الأكبر كونياً من حيث عدد السكان، وأنه ثاني أضخم اقتصاد عالمي.
وجهة ثالثة للمقاربة ذاتها، من زاوية مماثلة تتصل دائماً بمقادير التنافس الطردي، تلك التي تشير إلى أنّ الصين مطوّقة عملياً بقرابة 200 منشأة عسكرية أمريكية في اليابان وكوريا الجنوبية وحدهما، مع افتتاح وشيك لأربع قواعد عسكرية أمريكية جديدة في الفلبين، واحدة منها على مبعدة أقلّ من 100 ميل على تقاطع مضيق تايوان. إلى هذا وذاك، خزّنت الولايات المتحدة قنابل نووية في القواعد الفليبينية أيام الدكتاتور فردناند ماركوس، والرئيس الفلبيني الحالي لا ينوي التراجع عما انتهجه والده في هذا الصدد. صحيح، هنا أيضاً، أنّ للصين قاعدة عسكرية هامة في جيبوتي، وتنوي توسيع ميناء باكستاني ليستضيف زوارق عسكرية صينية متطورة؛ ولكنّ المفاضلة هنا مع الانتشار العسكري الأمريكي في المنطقة ليست هزيلة فقط، بل لا تستحق صيغة المقارنة أصلاً.
وجهة ثالثة، ليست ذات صفة طردية هذه المرّة بل أقرب إلى التماثل والتكامل، هي حكاية غياب الشفافية في الصين مقابل احتشاد الشفافيات في الولايات المتحدة؛ مع فارق أنّ النموذج الأمريكي يمكن أن يشفّ حول أيّ أمر وكلّ شيء، عن حقّ أو عن باطل، صادقاً أم كاذباً، حسن الطوية أم سيء النيّة، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والعلوم، وفي مدونة السلوك على أيّ صعيد وكيفما اتفق. ولهذا فإنّ اللعبة التي انخرط فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ذات يوم غير بعيد، لجهة اتهام الصين بالافتقار إلى الشفافية حول فيروس كوفيد – 19؛ سرعان ما انقلبت ضدّ ترامب نفسه، فأخذت وسائل الإعلام الأمريكية تتسابق في نبش تفاصيل التيه الإرادي الذي أسقط ترامب نفسه فيه: بين المضيّ في إبرام المزيد من الاتفاقيات التجارية مع الصين، والتوصل إلى حدّ أدنى من وقف إطلاق النار في الحروب التجارية؛ وبين إغضاب بكين في ملفّ جائحة كورونا عن طريق إطلاق تسمية «الفيروس الصيني» العنصرية، والتهديد برفع دعاوى قضائية لتعويض الوفيات الأمريكية، وفرض عقوبات اقتصادية.
خرائط نفوذ، إذن، تتغاير وتركد، تتوسع أو تنكمش، تتكامل أو تتعارض؛ مع قاسم مشترك أعظم هو أنها، غالباً، تستدعي مقارنات شتى… غير جديرة بالتسمية!
القدس العربي