من العراق إلى إيران: خداع النفس الأميركي

من العراق إلى إيران: خداع النفس الأميركي

 

هل حدث أي تحول في سياسة المشروع النووي الإيراني؟ هذا أحد الأسئلة التي جرى طرحها بعد الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية الصين وضمانها. وما سبقه في الموضوع نفسه هو سؤال عن عمق “المرونة” التي أظهرتها طهران في التعامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية خلال زيارة رئيسها رفاييل غروسي، ثم نفيها بعض ما أعلنه عن التسهيلات الإيرانية.

الجواب السريع أن مشكلة الملف النووي هي بين أميركا وإيران. ولم يكن بين التوقعات أن يتم التركيز على الملف في المفاوضات على “اتفاق بكين”. ولا كان سراً أن مطالبة دول الخليج بأن يكون لها مقعد إلى طاولة المفاوضات النووية لم تجد قبولاً إيرانياً ولا إصراراً أميركياً. أما المرونة، فإنها بدت جزئية وتكتيكية، بحيث قال رئيس المنظمة الإيرانية للطاقة الذرية محمد إسلامي بصراحة إن “الغرب قَبِل إيران دولة نووية، وخياره الوحيد في التعامل معها هو الدبلوماسية”.

ومهما يكن، فإن أميركا تأخرت كثيراً في إدراك الأخطاء التي ارتكبتها في الشرق الأوسط. تأخرت في رؤية الأخطار التي يشكلها المشروع الإيراني في المنطقة. تأخرت في تقدير ما سيقود إليه في فلسطين وداخل إسرائيل والإقليم ترك الصراع العربي – الإسرائيلي بلا تسوية في الجولان ولبنان وعبر “حل الدولتين” في قضية فلسطين.

اليوم، يعترف مدير الاستخبارات المركزية الأميركية وليم بيرنز بـ”أننا كنا في أحيان متقاربة جداً نعتقد بأن بإمكاننا تغيير منطقة في العالم من دون أن نفهمها جيداً دائماً”. ويقول في خطاب ألقاه في جامعة جورجتاون إن “الشرق الأوسط عام 2023 سيشكل تحديات معقدة لصانعي السياسة الأميركية بشكل خاص لأن جزءاً من التحديات موجود في إيران. الإيرانيون بارعون في القمع، لكن ليست لديهم إجابات عما في رؤوس الشباب الذي يشكل 70 في المئة من السكان، وهذا يؤدي إلى سلوك أكثر عدوانية داخلياً وفي المنطقة”، ذلك أن أميركا عبر أكثر من إدارة مارست ولا تزال، ومعها أوروبا أحياناً، سياسة خداع النفس ثلاث مرات في التعامل مع الملف النووي الإيراني كجزء من كل هو الطموح إلى دور قوة إقليمية كبرى. مرة عبر رسم السياسات على أساس حديث عن فتوى لم يقرأ نصها أحد للمرشد الأعلى علي خامنئي تحرّم إنتاج سلاح نووي. وثانية عندما رسم المحافظون الجدد لإدارة الرئيس جورج بوش الابن بعد أحداث سبتمبر 2001 سياسة “استخدام القوة الأميركية لإعادة تنظيم العالم” كما كتب روبرت كاغان في “الجنة والقوة”، وسياسة التصور الجاهل أن “سقوط صدام حسين يحفز الإيرانيين على التخلص من ديكتاتورية الملالي”، بحسب ريتشارد بيرل. وثالثة حين تجاهل الرئيس باراك أوباما مفاخرة الملالي بأنهم يحكمون أربع عواصم عربية، وراهن على الاتفاق النووي بأي ثمن على أساس أنه يؤخر قيام طهران بحيازة سلاح نووي. ثم عندما دعم أوباما الإخوان المسلمين في ثورات “الربيع العربي” لإقامة توازن بين قوة سنية تقودها تركيا وقوة شيعية تقودها إيران.

ولبنان والدول العربية في طليعة الذين دفعوا ثمن هذه السياسات. وليس من السهل على الرئيس جو بايدن الذي كان نائب أوباما تصحيح الوضع، سواء بالعودة إلى الاتفاق النووي أو بالعقوبات على الملالي. فالدرس كان مكتوباً على الجدار في نموذجين، نموذج أوكرانيا ونموذج كوريا الشمالية.

أوكرانيا التي تخلت عن سلاحها النووي في أيام السوفيات لقاء ضمانات أمنية أميركية وروسية وبريطانية ضمن “مذكرة بودابست” عام 1994 للحفاظ على سيادتها، لم تمنع الرئيس فلاديمير بوتين من اجتياحها. وكوريا الشمالية أصرت على امتلاك قنابل نووية وصواريخ قادرة على حملها، فضمنت البلد والنظام من أي هجوم. لم تنفق طهران مئات مليارات الدولارات وتتحمل أقسى العقوبات من أجل برنامج نووي سلمي تستطيع الحصول عليه بمساعدة الآخرين.

يروي السفير الفرنسي موريس غوردو مونتاني في مذكراته تحت عنوان “الآخرون لا يفكرون مثلنا” أن الرئيس جاك شيراك حذر بوش الابن في قمة في براغ عام 2002، وكان مونتاني حاضراً، من غزو العراق، وقال له “الحرب ستضرب الاستقرار في المنطقة، وتؤدي إلى تسلم الشيعة المقربين من إيران الحكم في بغداد، وتقوي نفوذ إيران في سوريا ولبنان عبر حزب الله. وهذه الحرب لن تكون شرعية وستحدث انقساماً داخل الأسرة الدولية، وستفقد الغرب مصداقيته، وستكون مصدر الفوضى التي ستنبثق منها موجة إرهاب ستصعب السيطرة عليها”. وما حدث كان أخطر مما توقعه شيراك.

واللعبة مستمرة. من تهور بوش الابن إلى حسابات أوباما الباردة. بوش فتح العراق أمام الملالي. وأوباما أعطى الملالي كل ما يريدون مقابل اتفاق نووي لم ولن يمنع طهران من تخصيب اليورانيوم سراً لصنع قنبلة. وهو اعترف أخيراً بأنه أخطأ في الامتناع عن دعم “الحركة الخضراء” عام 2009 في إيران من أجل التوصل إلى الاتفاق النووي، فضلاً عن أنه ترك لروسيا وإيران السيطرة على سوريا وتفرج على تحكم طهران بلبنان.

ترمب حاول أن يكون عكس أوباما وخرج عن الاتفاق، لكنه لم يفعل شيئاً مهماً. وبقي ينتظر اتفاقاً أفضل. وبايدن على خطى أوباما في الرهان على الاتفاق النووي في وقت ما. بماذا؟ بسلاح وحيد هو “الدبلوماسية”. والملالي أبرع من سياسة أميركا في الخداع الدبلوماسي. فهل يكون الاتفاق السعودي – الإيراني بداية تصحيح المسار؟

اندبدنت عربي