شاهد العراقيون محطات الطاقة والكنوز الوطنية وهي تُنهب بينما كانت القوات الأميركية تحرس وزارة النفط، وقلل دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي آنذاك، من شأن الاضطرابات، فقال: “الحرية هي عملية غير مرتبة”.
وكان الفراغ الأمني واستراتيجية اجتثاث البعث سببين في إثارة الطائفية وفي تغذية الإرهاب… وما تزال حصيلة القرار الأميركي الكارثي بغزو العراق، المدعوم من المملكة المتحدة، تتضح أكثر مع مرور كل عام.
* *
لم يستغرق الأمر طويل وقت حتى يدرك الجميع أن حرب العراق كانت الكارثة التي تنبأ الكثيرون بأنها ستكونها؛ ولم يستغرق الأمر وقتًا أطول بكثير لتأكيد أنه تم إطلاق هذه الحرب على أساس كذبة، وأنها لا توجد أسلحة دمار شامل في العراق.
وأيًا كانت مشاعر الارتياح أو الفرح التي شعر بها العراقيون عند سقوط نظام صدام حسين العنيف والقمعي، فإنها سرعان ما طغت عليها مشاعر رعب ما أعقب ذلك.
لم يتوقف عدد الجثث والأضرار الأوسع نطاقًا عن الارتفاع منذ ذلك الحين. وعندما حلت الذكرى السنوية العاشرة لتلك الحرب، لم يكن تنظيم “داعش”، الذي ولد من تداعيات الحرب، قد وصل بعد إلى صعوده المخيف نحو إقامة “خلافة”.
والآن، بعد عقدين من ابتداء الحرب بهجوم “الصدمة والرعب” في 19 آذار (مارس) 2003، ما نزال نحاول أن نفهم عمق تأثير الغزو الذي قادته الولايات المتحدة ودعمته المملكة المتحدة.
بطبيعة الحال، تم الشعور بالخسائر أكثر من أي مكان آخر داخل العراق نفسه. فقد لقي مئات الآلاف من المدنيين حتفهم في أعمال العنف التي تلت الحرب.
ويقدر “مشروع تكاليف الحرب” أن عدة أضعاف هذا العدد ماتوا من الآثار غير المباشرة. وقد نزح أكثر من 9 ملايين عراقي.
وقتل الآلاف من أفراد قوات التحالف، معظمهم أميركيون. وتم هدر تريليونات الدولارات التي كان من الممكن إنفاقها لتحسين حياة الناس على تدمير هذه الحياة. وذهب الكثير من إنفاق وزارة الدفاع الأميركية إلى خمس شركات ضخمة فقط.
ثم تفاقمت الكارثة بسبب الفشل في التخطيط لما سيأتي تاليًا. وقد شاهد العراقيون محطات الطاقة والكنوز الوطنية وهي تُنهب بينما كانت القوات الأميركية تحرس وزارة النفط، وقلل دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي آنذاك، من شأن الاضطرابات بوضوح، فقال: “الحرية هي عملية غير مرتبة”.
وكان الفراغ الأمني واستراتيجية اجتثاث البعث أسبابًا في إثارة الطائفية -ليس في العراق وحده فقط، بل وأيضًا خارج حدوده، وفي تغذية الإرهاب الذي لم يثبت أنه الأكثر فتكًا في المنطقة فحسب، بل وأودى بحياة الناس في الغرب أيضًا. وجاءت القرارات اللاحقة، مثل دعم نوري المالكي، لتزيد الأمور السيئة سوءًا فحسب.
كما قلص الغزو الآمال في تحقيق الاستقرار في أفغانستان من خلال جذبه الانتباه والموارد والقوات. وعزز إيران وشجعها.
وزاد اقتناع كوريا الشمالية بأن من الضروري لها الحصول على أسلحة الدمار الشامل والدفاع عنها. وعجل بنهاية لحظة الأحادية القطبية القصيرة وقوض الرؤى حول نظام عالمي قائم على القواعد.
ولم تؤد المغامرة العسكرية التي تصورها العديد من لاعبيها على أنها إعادة تأكيد صارخة لتفوق الولايات المتحدة في أعقاب هجمات 11 أيلول (سبتمبر) إلا إلى إضعاف وتقويض البلاد -خاصة بعد الأهوال التي ظهرت في “أبو غريب” والوحشية الأوسع ضد المدنيين.
وقد لاحظت روسيا والصين ذلك. وكذلك فعل الجنوب العالمي، الأمر الذي أعاق الجهود الرامية إلى حشد الدعم لأوكرانيا مؤخرًا. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تتعارض فيها السياسة الخارجية للولايات المتحدة مع مثُلها المعلنة، لكن التعارض لم يكن علنيًا ومكشوفًا إلى هذا الحد ولا يمكن إنكاره منذ حرب فيتنام.
وقد فقدت النزعة التدخلية الليبرالية مصداقيتها بشدة. وأسهمت تدفقات اللاجئين الناتجة عن عدم الاستقرار الإقليمي، إلى جانب الهجمات التي يقودها تنظيم “داعش” أو المستوحاة منها في أوروبا، في تنامي الاتجاهات القومية العرقية، وتغذية الدعم لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
يبدو العراق في الوقت الحالي هادئًا نسبيًا. لكن القوات الأميركية ما تزال حاضرة هناك بسبب المعركة المستمرة ضد “داعش”. وعلى الرغم من وجود حكومة في البلد الآن، بعد عام من الجمود الذي أعقب الانتخابات واندلاع العنف في بغداد، ما تزال الدولة غير قادرة على إبقاء الأنوار مضاءة أو توفير المياه النظيفة. وقد جمع السياسيون والمسؤولون المليارات ووضعوها في جيوبهم.
أكثر من نصف العراقيين اليوم هم أصغر من أن يتذكروا الحياة في عهد صدام حسين. ويطمح البعض إلى مجتمع وحكومة ينظران إلى ما وراء الطائفية ونحو مستقبل أكثر إشراقًا، كما أظهرت “حركة تشرين” 2019، وعودة ظهور المشاركين في انتخابات العام 2021.
ومع ذلك، فإن الإقبال المنخفض على الانتخابات بعد ذلك أكد أن آخرين قد تخلوا عن حلم الديمقراطية، بفضل أولئك الذين تفاخروا بأنهم كانوا يجلبونها لتبرير حربهم على البلد.
وقد تمر سنوات عديدة أخرى قبل أن نعرف تمامًا كامل آثار الكارثة التي أُطلق لها العنان قبل عقدين من الزمن.
الغد