أمضت الولايات المتحدة العقد الأول من الغزو الأمريكي للعراق في إسقاط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين وإعادة تشكيل الدولة العراقية وفقاً لرؤيتها. وبعد إخفاقاتها المتتالية، فإنها أمضت العقد الثاني في محاولة إصلاح تلك الإخفاقات، والتخلص من “مأساة” حرب العراق وقلب صفحتها، حيث تنصلت النخبة السياسية الأمريكية – عادة ما يطلق عليها مصطلح “بلوب Blob” – التي كانت مؤيدة بقوة لتلك الحرب في بدايتها وعديد من المشرعين بمجلسي النواب والشيوخ الذين صوتوا على قرار يُفوِّض إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن باستخدام القوة العسكرية لتغيير النظام السياسي في العراق، من تلك الحرب، وأعربوا عن ندمهم لدعمها في بدايتها ومنهم الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي دعمها بينما كان يرأس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، لفشلها في تحقيق أهدافها الرئيسية.
إذ لم تنجز المهمة العسكرية الأمريكية في تحويل العراق إلى “رمح التغيير” في منطقة الشرق الأوسط، ولكنها حولته إلى ساحة للحرب الأهلية، وملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية، وساحة لنفوذ إيران انطلقت منه لتعزيز نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما في سوريا ولبنان واليمن.
تباينات مستمرة
مع مضي عقدين على الغزو الأمريكي للعراق، الذي وصفته عديد من الكتابات الأمريكية بـ”المأساة” التي ألحقت خسائر فادحة بالولايات المتحدة وخسائر أكبر بالعراق، لا يزال هناك جدل داخل الأوساط السياسية الأمريكية حول الأسباب الرئيسية لتلك الحرب.
فقد ذهبت بعض التحليلات الأمريكية إلى أن الغزو الأمريكي للعراق كان مدفوعاً من قبل لوبي قوي مؤيد لإسرائيل داخل الولايات المتحدة، وأفكار المحافظين الجدد بتيارهم الديني والسياسي، وأن إدارة بوش الابن شنت تلك الحرب بسبب تعطشها للنفط أو بدوافع “تصدير الديمقراطية” لمنطقة الشرق الأوسط ومناطق أخرى، ومنع التنظيمات الإرهابية، ولا سيما تنظيم القاعدة، من الحصول على أسلحة الدمار الشامل من العراق، حيث كان عديد من مسئولي إدارة بوش الابن وحلفائها وخبراء الحد من أسلحة الدمار الشامل يزعمون أن العراق لا يزال لديه برامج سرية لأسلحة الدمار الشامل وأنه على صلة بتنظيم القاعدة، وهما افتراضان لم تثبت صحتهما بعد عقدين من الحرب الأمريكية على العراق.
وقد استدعت كتابات تصريح الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما بينما كان يمثل ولاية إلينوي في مجلس الشيوخ بأن الحرب “كانت محاولة من إدارة بوش الابن لإلهاء الأمريكيين عن مشكلات اقتصادية وفضائح الشركات”. وكذلك إلقاء الرئيس السابق دونالد ترامب باللوم في تلك الحرب على شركات المقالات الدفاعية والجنرالات المتلهفين للمغامرات العسكرية في منطقة الشرق الأوسط.
وقد خلص ملفين ليفلر – أحد أكثر المؤرخين الدبلوماسيين الأمريكيين إنجازاً، في كتابه المهم المعنون بـ”مواجهة صدام حسين: جورج دبليو بوش وغزو العراق”، الذي صدر في الأول من فبراير 2023، والذي اعتمد فيه على مصادر أرشيفية بريطانية وأمريكية وعديد من المقابلات مع المسئولين الأمريكيين – إلى أن مأساة حرب العراق – كما يطلق عليها – لا يمكن تفسيرها بنظريات المؤامرة أو مزاعم سوء النية، ولكن كلاً من القرار غير الحكيم بغزو العراق والافتقار للتخطيط لما بعده نتجا عن مزيج من الخوف والقوة والغطرسة الأمريكية، حيث الخوف من أن الولايات المتحدة لم تكن قادرة على تجاهل الأخطار المحتدمة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتهديد أراضي الولايات المتحدة للمرة الثانية في التاريخ بعد الهجوم على بيرل هاربر في 26 نوفمبر 1941، ولا سيما أن الولايات المتحدة تتميز بموقع يحقق لها الأمن، حيث محيطين في الشرق والغرب ودولتين مسالمتين في الشمال والجنوب، إلى جانب القوة الأمريكية المتزايدة التي يمكن أن تستخدمها واشنطن في التعامل مع تلك المخاطر بشكل حاسم، وأخيراً “الغطرسة” التي دفعت إدارة بوش الابن التي ضمت مسئولين من تيار المحافظين الجدد للتفكير في أنه يمكن إنجاز مهمة الغزو بسرعة وبتكلفة زهيدة.
رغم هذا الجدل، فإن هناك إجماعاً بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري على أن حرب العراق كانت خطأ فادحاً لكونها نفذت على فرضيات خاطئة، وإجماعاً آخر داخل الكتابات الأمريكية بأنها لم تكن حرب “ضرورة” لتحدي العراق المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، ولكنها كانت حرب “اختيارية” انخرطت فيها إدارة الرئيس بوش الابن بمحض إرادتها، بينما كانت مصالحها الاستراتيجية في المنطقة وأمنها القومي غير معرض للخطر والتهديد بما يفرض استخدام التدخل العسكري، كما كان الحال في الحرب الأمريكية على أفغانستان في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي كانت “حرب ضرورة” وفقاً لهذه الرؤية.
تداعيات عديدة
أدت إخفاقات الولايات المتحدة خلال عقدين من حرب مكلفة مالياً وبشرياً للإضرار بسمعة الولايات المتحدة التي كانت معروفة بكفاءتها؛ وذلك بسبب سوء التخطيط، وعدم القدرة على التعامل مع فراغ السلطة بعد سقوط نظام صدام حسين، وحل الجيش العراقي بطريقة غير حكيمة، إلى جانب عديد من الإخفاقات التي أنتجت حالة من الفوضى تجاوزت حدود العراق إلى منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، على نحو بدا جلياً في منتصف عام 2014 عندما بدأ نشاط تنظيم “داعش” يتصاعد داخل العراق وخارجها.
وعوضاً عن تعزيز مكانة الولايات المتحدة جيوسياسياً، فقد أدى الصراع العراقي الذي تلى الحرب إلى إنهاك القوة والموارد الأمريكية التي كان يمكن استثمارها في حل مشكلات أخرى مثل البرنامج النووي لكوريا الشمالية، والسياسات الانتقامية الروسية، والصعود الصيني ومنافسته للقيادة الأمريكية المنفردة للنظام الدولي في أعقاب انتهاء الحرب الباردة. فقد جعلت الحرب الأمريكية على العراق الولايات المتحدة في ركود استراتيجي في وقت كانت تتزايد فيه المخاطر الدولية التي تمثلها القوى المنافسة للولايات المتحدة.
وكان لتداعيات تلك الحرب دور في تنامي التيار الانعزالي بين السياسيين الأمريكيين الرافضين لمزيد من الانخراط الأمريكي في الشئون الدولية، وهو ما هيأ المناخ أمام صعود دونالد ترامب ورفعه شعار “أمريكا أولاً”، الذي لقى ترحيباً من قاعدة انتخابية عريضة ترفض التدخلات العسكرية الأمريكية خارجياً التي تُثقِل كاهل دافعي الضرائب الأمريكي، وتدفع لاستثمار أموالهم في عمليات عسكرية خارجية بينما يواجه الداخل الأمريكي العديد من الأزمات على كافة الأصعدة، وكذلك تصاعد تيار شعبي رافض للمؤسسة الأمريكية وداعميها بين نسبة كبيرة من الناخبين الأمريكيين.
وبعد أن أصبح العراق غير محكوم برئيس مناهض للولايات المتحدة، فإنه أصبح بعد عقدين من الحرب محكوماً بمجموعة من القوى السياسية المتناحرة والضامنة للنفوذ الإيراني، والداعية لانسحاب القوات الأمريكية من العراق، وبل تشن أجنحتها العسكرية عمليات هجومية ضد القواعد العسكرية الأمريكية بالعراق. ولم تُزِد الحرب من حدة الطائفية في العراق فقط، ولكن في كل أنحاء منطقة الشرق الأوسط، وأطلقت العنان لإيران لزيادة دورها المزعزع للاستقرار في المنطقة. وبدلاً من أن تقضي الحرب على الإرهاب وتنظيم القاعدة فإنها حولت العراق لملاذ للتنظيمات الإرهابية، لا سيما مع بروز تنظيمات أخرى أكثر قوة وتأثيراً من القاعدة، وخاصة تنظيم داعش الإرهابي الذي سيطر على مساحات شاسعة من أراضي سوريا والعراق، قبل أن يخرج منها مجدداً بفعل الضربات العسكرية التي تعرض لها، والتي لا تنفي في الوقت نفسه أنه يملك خلايا نائمة تسعى إلى تجديد نشاطه مرة أخرى في تلك المناطق.
استعادة الكونجرس سلطاته
مع حلول الذكرى العشرين للغزو الأمريكي للعراق، الذي استند فيه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش، على تفويض من الكونجرس الأمريكي، سعى الأخير إلى استعادة سلطاته في الموافقة على شن الرئيس ضربات عسكرية في العراق وعمليات الانتشار، والتي كان يفوض الرئيس فيها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بحجة أن تفويضات الحرب لم تعد ضرورية لتراجع الخطر الإرهابي عالمياً، ولسوء استغلال الرؤساء الأمريكيين الديمقراطيين والجمهوريين المتعاقبين لتلك التفويضات.
وفي أولى الخطوات لتحقيق ذلك، صوَّت مجلس الشيوخ الأمريكي، في 16مارس الجاري، بأغلبيته (68 صوتاً من ضمنهم 19 جمهورياً) مقابل 27 صوتاً، على تشريع لإلغاء تفويضين يمنحان موافقة مفتوحة من الكونجرس للرئيس على العمل العسكري في العراق، صدر الأول في عام 1991 الذي أجاز التدخل العسكري الأمريكي لتحرير دولة الكويت من الغزو العراقي، والثاني صدر في عام 2002 والذي أعطى الضوء للحرب الأمريكية على العراق في مارس 2003.
بيد أن هناك معارضة بين عديد من المشرعين الجمهوريين، الذي يسيطرون على الأغلبية في مجلس النواب، لإلغاء التفويضين، لأن من شأن ذلك تقييد سلطة الرئيس في شن عمليات عسكرية للحفاظ على الأمن القومي الأمريكي، مثل الهجوم الذي شنه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لاستهداف القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني في 3 يناير 2020، والهجمات ضد الميلشيات المسلحة التي تستهدف القواعد العسكرية الأمريكية ومواطني الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وقد دعم البيت الأبيض خطوة مجلس الشيوخ، مشيراً إلى أن إلغاء التفويضين لن يؤثر على العمليات العسكرية الأمريكية الحالية في العراق في وقت ترتبط به الإدارة بعلاقة قوية من شركائها العراقيين، تحافظ من خلالها على تواجد القوات العسكرية الأمريكية التي تقدر بحوالي 2500 جندي، مهمتهم الأساسية تقديم الدعم والتدريب والمشورة للقوات العراقية في حربها ضد تنظيم داعش الإرهابي. ولعل ذلك ما أكدت عليه زيارة وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن غير المعلنة للعراق في 7 مارس الجاري. ووفقاً للرؤية الأمريكية، فإن وجود القوات الأمريكية في العراق وسوريا يجعل من الصعب على إيران نقل الأسلحة عبر العراق وسوريا إلى لبنان، لاستخدامها من قبل وكلائها، بما في ذلك حزب الله اللبناني، ضد إسرائيل، وهى رؤية لا تتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض، التي تشير إلى استمرار إيران في تبني هذه السياسة رغم كل الضغوط التي تتعرض لها.
خلاصة القول، مع إخفاق السياسة الأمريكية القائمة على تغيير الأنظمة باستخدام القوة العسكرية في العراق في 2003، وفي ليبيا في 2011، حيث لا تزال الدولتان ساحة للحرب الأهلية وحرب بالوكالة بين بعض القوى، أضحت الولايات المتحدة تتجنب حروب تغيير الأنظمة المعادية وإحلالها بـ”أنظمة ديمقراطية” والتي غالباً ما تتضمن تعقيدات أكثر تكلفة مما يتوقع في بدايتها، كما أنها باتت على قناعة بضرورة أن تحد من التدخل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط. وبمعنى آخر، فإنه بعد عقدين من حرب مكلفة في العراق، بدأت واشنطن ترفع شعار “لا مزيد من العراق”. وبعبارة أكثر تحديداً، لا مزيد من التجارب المماثلة لتجربة العراق.
مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجة