أميركا قرعت سلفاً طبول المواجهة مع الصين وروسيا. لم تأخذ بتحذير الخبراء، وبينهم البروفيسور جوزيف ناي، من الوقوع في “فخ ثيوسيديس”. وهو خوف قوة مكرسة من قوة صاعدة، كما فعلت أثينا مع إسبارطة، مختارة الذهاب إلى الحرب. ففي استراتيجية الأمن القومي لإدارة الرئيس جو بايدن “إن الصين هي المنافس الاستراتيجي الوحيد للولايات المتحدة الذي لديه النية والقدرة بشكل متزايد على إعادة تشكيل النظام العالمي، وروسيا تشكل تهديدات خطرة للمصالح القومية الحيوية الأميركية، ونمو الشراكة بينهما يفرض تحديات أكثر خطورة”. وبقيت أصوات صارخة في البرية، دعوات غراهام أليسون إلى “مشاركة الكون مع القوى الكبرى، والتخلي عن رفض الاعتراف بمناطق النفوذ، كما حدث في يالطا”، ودعوات توماس غراهام إلى التعامل مع روسيا، كما هي و”دع روسيا تكن روسيا”. وما كان أمام الصين وروسيا سوى “تعميق الشراكة الاستراتيجية” بينهما خلال زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى روسيا. شراكة “ليست تحالفاً عسكرياً” كما جاء في البيان الصادر عن قمة شي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولا هي “موجهة ضد دول أخرى”. كيف؟ وهي ضد أميركا و”الناتو” وتوسع اهتمامات الحلف الأطلسي إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
لكن الغطرسة واحدة لدى القوى الكبرى. غطرسة القوة الأميركية صارخة منذ الحرب العالمية الثانية، وقد واجهت انتقادات داخل أميركا نفسها. روسيا مارست غطرسة القوة في الشيشان وجورجيا وشبه جزيرة القرم وحرب سوريا، وتمارسها حالياً في حرب أوكرانيا. والصين انتقلت من التواضع، والقول إنها “دولة نامية في العالم الثالث لا قوة عظمى” إلى غطرسة القوة ودور “القوة العظمى العلمية”، ثم العسكرية والسياسية والاقتصادية. والمنطق واحد. أميركا بررت غزو العراق وإسقاط نظامه بادعاء التخلص من “أسلحة الدمار الشامل” و”إعادة تشكيل الشرق الأوسط”. روسيا تبرر غزو أوكرانيا بادعاء القضاء على “النازيين الجدد” و”نزع الأسلحة” و”منع الانضمام إلى الناتو”. والصين تبرر الشراكة بأن “الصين وروسيا تنشآن نموذجاً جديداً للعلاقات بين القوى العظمى وبنائها على مبادئ عدم الانحياز وعدم المواجهة وميثاق الأمم المتحدة”.
وكل ذلك عكس الواقع والحقيقة. فما فعلته حرب أوكرانيا وعملية بناء نظام عالمي جديد، هو شل الأمم المتحدة وتكريس مرحلة اللانظام العالمي. وما تلتقي عليه أميركا والصين وروسيا هو الامتناع عن عضوية المحكمة الجنائية الدولية، ورفض أي قرار لها يتعلق بأي فعل مسؤول مدني أو عسكري من هذه الدول، والترحيب بقرارات ضد مسؤولين من دول أخرى. وما تعترض عليه له منطق واحد. واشنطن تعترض على أي سلاح صيني أو إيراني أو كوري شمالي يصل إلى روسيا. وبكين وموسكو تعترضان على الأسلحة التي يقدمها “الناتو” لأوكرانيا، وتهددان برد غير عادي. لا، بل إن البيان المشترك الصيني – الروسي الذي نص على “رفض حدوث حرب نووية لن يخرج منها رابح” جاء وسط تلوع موسكو بالرد النووي على تجاوز الغرب للخطوط الحمر، وتكرار الكلام على خطورة اللعب مع “دولة نووية”.
يقول شي مودعاً بوتين “هناك تغييرات لم تحدث منذ مئة عام. وعندما نكون معاً، فإننا نقود هذه التغييرات”. ويرد الرئيس الروسي “أتفق معك”، لكن اللعبة أشد تعقيداً من ذلك. فلا الرئيس الصيني أوضح نوعية المتغيرات التي تحدث عنها، ولا بوتين يعرف كيف سيخرج من حرب أوكرانيا كي يشارك في قيادة المتغيرات، ولا بايدن يسلم بحدوث المتغيرات بمقدار ما يعمل للقيام بمهمة مستحيلة هي الحفاظ على النظام العالمي الليبرالي الذي بنته أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن أن الوساطة الصينية بين روسيا وأوكرانيا لترتيب تسوية سياسية تنهي الحرب تصطدم بعوائق هائلة. فلا بوتين يريد في التسوية ما هو أقل من الاعتراف الأوكراني والدولي بضم أربع مناطق من أوكرانيا بعد شبه جزيرة القرم. ولا الرئيس فولوديمير زيلينسكي يبحث في تسوية قبل أن تسحب روسيا قواتها من بلاده. ولا أميركا تعتبر أن بكين “محايدة” ما دامت في شراكة استراتيجية مع موسكو.
لكن شي يطبق نصائح دينغ شياو بنغ الذي بدأ مسار الانفتاح والتنمية في الصين “خبئ قوتك وانتظر وقتك” على طريقة “تمسكن حتى تتمكن”. وهو بنى القوة التي صار يستطيع المجاهرة بها. و”اعبر النهر، ولكن تلمس الصخور”. وهو يعبر نهر العلاقات الدولية بحذر ويتلمس صخوره. واللعبة طويلة.
اندبندت عربي