قبل سنوات قليلة، اعتبر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية بمثابة “هتلر الشرق الأوسط”، لكنّه أعطى الآن الضوء الأخضر لاتفاق مصالحة مفاجئ مع طهران يتماشى مع حقبة جديدة من التقارب الإقليمي.
وحين كان يبلغ 29 عاما فقط، شنّ الأمير محمد بن سلمان وكان وزير الدفاع حينها هجوما شرسا على المتمردين الحوثيين في اليمن، لكن المملكة باتت منخرطة في محادثات عبر قنوات خلفية قد تؤدي في النهاية إلى إخراج القوات السعودية من الحرب.
كما عمل خلال السنوات الأخيرة على إصلاح الخلافات المريرة مع خصومه الإقليميين مثل قطر وتركيا، بل وقدّم بلاده كوسيط محتمل للحرب في أوكرانيا.
وقال محلّلون إنّ الأمير محمد بن سلمان تحوّل راهنا إلى صاحب سلطة براغماتي بشكل غير مسبوق، حتى لو كان من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت إجراءاته لخفض التصعيد ستنجح.
وقال الخبير في السياسة الخارجية السعودية بجامعة برمنغهام عمر كريم إنّ الاتفاق مع إيران على وجه الخصوص “يمثّل تغييرا جذريا في نهجه السياسي”، ما يشير إلى “نضج وفهم أكثر واقعية للسياسات الإقليمية”.
أجندة الرياض واضحة: تقليل الاضطرابات في الخارج للحفاظ على التركيز على الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية في الداخل
إلا أنّ عملية التحول لم تكتمل بعد، إذ لا يزال الاتفاق مع إيران في حاجة إلى التنفيذ، حيث من المقرر إعادة فتح السفارات بحلول الأسبوع الثاني من مايو بعد سبع سنوات من القطيعة الدبلوماسية.
وفي سياق متّصل، تجري السعودية وسوريا مباحثات تتعلّق باستئناف الخدمات القنصلية بين البلدين، بعد قطيعة مستمرة منذ سنوات نتيجة إغلاق الرياض سفارتها في دمشق على خلفية موقفها المناهض للنظام، حسبما أفاد مسؤول في وزارة الخارجية السعودية الخميس.
وكانت المملكة أغلقت سفارتها في دمشق وسحبت كل الدبلوماسيين والعاملين فيها في مارس 2012، بعد
نحو عام من اندلاع النزاع في سوريا حيث دعمت الرياض الجماعات المعارضة للنظام وللرئيس السوري بشار الأسد.
وبغض النظر عمّا سيحدث لاحقا، تبدو أجندة الرياض واضحة: تقليل الاضطرابات في الخارج للحفاظ على التركيز على الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية في الداخل.
وقال مسؤول سعودي بعد أيام من الإعلان عن الاتفاق مع إيران “رؤيتنا هي شرق أوسط مزدهر، لأنه دون أن تتطور منطقتك معك، هناك حدود لما يمكنك تحقيقه”.
“الرؤية” تحت التهديد
وقام صندوق الاستثمارات العامة بسلسلة من الاستثمارات المكلفة في كل القطاعات من شراء نادي نيوكاسل الإنجليزي لكرة القدم إلى الاستثمار في شركة نينتندو للألعاب الالكترونية.
وسلّطت هذه الاستثمارات واسعة النطاق الضوء على كيف يمكن أنّ تحدّ أجندة “رؤية 2030” الإصلاحية من اعتماد أكبر مصدّر للخام في العالم على الوقود الأحفوري.
وخيّمت مخاوف واسعة بشأن تصعيد القمع بمواجهة المعارضين والحقوقيين، خاصة بعد مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول عام 2018. لكن المسؤولين السعوديين أدركوا أيضًا كيف أن التهديدات الأمنية، خاصة من إيران، تهدّد الخطط الكبرى للأمير محمد بن سلمان.
وبلغت هذه التهديدات ذروتها في سبتمبر 2019، مع هجمات استهدفت منشآت نفطية سعودية في شرق البلاد أدّت إلى خفض إنتاج الخام إلى النصف مؤقتًا، وقد أعلن الحوثيون المدعومون من إيران مسؤوليتهم عنها
وانتاب المسؤولون السعوديون خيبة أمل شديدة بسبب الرد الفاتر من إدارة الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب والتي اعتبروا أنها قوّضت نظرية “النفط مقابل الأمن” التي حدّدت شكل الشراكة بين الرياض وواشنطن لعقود.
وقال دبلوماسي عربي مقيم في الرياض لفرانس برس “لقد صُدم السعوديون لأن الأميركيين لم يفعلوا شيئا لحمايتهم”.
وتكشّف مشهد متناقض مشابه العام الماضي في جدة، ثاني أكبر مدينة سعودية والواقعة على ساحل البحر الأحمر، حين قصف الحوثيون منشأة نفطية بالقرب من حلبة سباق الفورمولا 1 فيما كان السائقون في المضمار.
ويتذكّر الدبلوماسي قائلا “أخبرنا المسؤولون السعوديون نحن في حاجة إلى التركيز على المشاريع العملاقة”، مشيرا إلى مدينة “نيوم” المستقبلية الضخمة ومركز فنون ناشئ في مدينة العلا في أقصى شمال البلاد.
وأضاف “إذا سقط صاروخ واحد على “نيوم” أو العلا فلن يكون هناك استثمار أو سياحة. الرؤية ستنهار”.
خفض منسوب التوتر
في استعادة علاقته مع إيران، لم يذهب الأمير محمد بن سلمان بمفرده، إذ أعادت الكويت والإمارات العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع الجمهورية الإسلامية العام الماضي.
لكن المحللين قالوا إن الصفقة السعودية – الإيرانية أكثر أهمية من غيرها لأن البلدين وجدا نفسيهما على طرفي نقيض من النزاعات في جميع أنحاء المنطقة، ليس في اليمن فحسب بل أيضًا في لبنان والعراق.
وكان الاتفاق بين السعودية وإيران الذي وقع في وقت سابق من شهر مارس الجاري حدد مهلة شهرين لاستئناف العلاقات الدبلوماسية رسميا، كما تضمّن تعهدا لكل جانب باحترام سيادة الطرف الآخر وعدم التدخل في “الشؤون الداخلية”.
وقالت آنا جاكوبس من مجموعة الأزمات الدولية إنّ “خفض التوتر مع إيران طريقة ذكية لخفض التوترات في جميع أنحاء المنطقة وتخفيف حدّة بعض المعارك بالوكالة التي تحيط بالسعودية”.
والخطوة التالية لتنفيذ الاتفاق ستكون اجتماعا بين وزيري خارجية البلدين، لم يتم تحديد موعده بعد.
وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، قال مسؤول إيراني إن الرئيس إبراهيم رئيسي تلقى دعوة لزيارة السعودية من الملك سلمان بن عبدالعزيز إلا أنّ الرياض لم تؤكّد ذلك بعد.
وستتم مراقبة هذه اللقاءات عن كثب وسط مخاوف من أن التقارب لا يزال هشًا ويمكن أن ينحرف عن مساره بسهولة.
وأشارت جاكوبس إلى “انعدام ثقة عميق بين السعودية وإيران”، مضيفة “سيحتاج الجانبان إلى رؤية إشارات إيجابية من الآخر قريبًا جدًا للمضي قدما في الاتفاق”.
صحيفة العرب