لا شك أن خضوع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحكومته لضغوط الانتخابات وضيق الوقت يعود بالفائدة على البلاد، لذلك لن يكون من الخطأ تقييم الخطوات الملموسة المتخذة في السياسة الخارجية، وبخاصة التقدم السريع في العلاقات مع القاهرة في هذا السياق.
لقد بدأت العملية بالمفاوضات بين أنقرة والقاهرة، أولاً بين مسؤولي الاستخبارات، ثم بين نائبي وزيري الخارجية، تلتها مرحلة صمت بعد بعض الخطوات التي طلبها الجانب المصري، مثل إيقاف بث القنوات التابعة للمعارضة المصرية، بل وطردها من تركيا.
لا نعرف بالضبط كيف وتحت أي ظروف تم الترتيب، ومن أي جهة جاءت المبادرة، ولكن يبدو أنها بوساطة قطرية، حيث التقى أردوغان والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في الدوحة خلال افتتاح بطولة العالم لكرة القدم، وتصافح رئيسا الدولتين واجتمعا لفترة وجيزة، ثم سارت العملية بوتيرة غير متوقعة، وقدمت دبلوماسية الزلازل زخماً إضافياً، وزار وزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو القاهرة بعد فتور دام لمدة 11 عاماً.
إن الانطباع الذي أخذته من المؤتمر الصحافي المشترك عقب اجتماع الوفدين برئاسة وزير الخارجية المصري سامح شكري والوزير التركي تشاويش أوغلو، وكذلك المعلومات التي حصلت عليها من الكواليس تشير إلى أنه بالطبع لم يتم حل جميع القضايا، لكن الجانبين متفقان على أن الاجتماع كان في جو إيجابي للغاية.
الأمر الذي لفت انتباهي في المؤتمر الصحافي المشترك هو أن تشاويش أوغلو ردد تعبير “أخي سامح شكري” نحو عشرين مرة. وردد عبارة “مصر الشقيقة” خمس مرات. وشدد على أهمية دور مصر، بخاصة في شرق المتوسط والعالم العربي وأفريقيا وفلسطين. ووصف السنوات التي أعقبت تدهور العلاقات عام 2013 بـ”السنوات الضائعة”، مضيفاً “كانت هناك فجوة استمرت تسع سنوات، ونحن بحاجة إلى سد هذه الفجوة”.
بناء على ذلك، أشرت في عنوان مقالي إلى أن تركيا ومصر ستتحدثان بعد هذه المرحلة فصاعداً عن صداقتهما وليس عن أزمتهما.
ولهذا السبب يجب ألا نكون عالقين في الماضي بعد الآن، ولن يكون هناك عداء دائم في العلاقات الدولية، وينبغي أن تكون العلاقات التركية – المصرية جيدة.
إن دخول العلاقات بين تركيا ومصر في الاتجاه الصحيح هو تطور مهم للغاية ستكون له نتائج إيجابية على كل من البلدين وشرق البحر الأبيض المتوسط. ومن العقلانية أن ننظر إلى المستقبل من منظور “حيثما رجعت من طريق الخسارة، فأنت رابح”.
من ناحية أخرى، وبالنظر إلى حقيقة أنه لم يحدث أي تغيير كبير في أي من العوامل التي أدت إلى تدهور العلاقات بين تركيا ومصر وفجوة السنوات التسع، فإن من الطبيعي أن تتبادر إلى أذهاننا أسئلة من قبيل “لماذا تدهورت العلاقات، ولماذا بدأت بالتحسن؟”.
فلو لم تحدث مقاربات أيديولوجية وإصرار على قضايا معينة، لما كانت هناك “فجوة السنوات التسع”، أو “السنوات الضائعة”، كما عبر عنها تشاويش أوغلو.
وها نحن أولاء اليوم نشاهد الجهود التي يبذلها مرتكبو فجوة السنوات التسع لتصحيح الوضع والتعويض عن هذه السنوات الضائعة.
ومن المحتمل أن يرتقي التمثيل الدبلوماسي إلى مستوى السفير قبل الانتخابات.
إذا حدث ذلك فسيتم القضاء على المشكلة الرئيسة أمام تطوير العلاقات من خلال تقديم أوراق اعتماد المسؤولين الأتراك والمصريين الذين سيتم تعيينهما سفيرين في القاهرة وأنقرة.
وأخيراً أود التأكيد أن تركيا تقع في منطقة جغرافية صعبة دولياً وإقليمياً، حيث تتقاطع خمسة خطوط رئيسة، مثل البلقان ودول الاتحاد السوفياتي السابق والشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة البحر الأبيض المتوسط.
إنها منطقة جغرافية واسعة، حيث تغيرت موازين القوى بشكل متكرر عبر التاريخ، وسادت الأعمال العدائية والصراعات العرقية والدينية والخلافات السياسية، وتزعزع الاستقرار وتتابعت الشكوك.
إن الموارد الغنية كالنفط والغاز الطبيعي والمياه مجال تتنافس فيه القوى داخل المنطقة وخارجها، الأمر الذي يتطلب من رجال الدولة الذين يتحملون مسؤولية إدارة السياسة الخارجية لبلد في مثل هذه الجغرافيا أن يتمتعوا بخصال الحكماء مثل البصيرة والعقل والحصافة والمبدئية والحس السليم والموثوقية. ويحتاج هؤلاء الأشخاص إلى اتخاذ قراراتهم بناءً على الحقائق والتجارب الجيوسياسية الإقليمية المجربة والمثبتة.
والمتوقع من مؤسسات السياسة الخارجية التي تواجه أرضية متقلبة كهذه أن تلتزم مبادئ الواقعية والقدرة على التنبؤ والاستمرارية والاتساق والتوازن، وتتجنب القرارات المتعجلة والحادة.
على رغم أنني أشك في صدق أردوغان وحكومته، فقد تعلموا كيف يجب أن يتصرف رجال الدولة. وآمل ألا تقع الصداقة التركية – المصرية المتجددة ضحية الهواجس الأيديولوجية مرة أخرى.
اندبندت عربي