بعد نجاح الوساطة الصينية في إذابة جليد المقاطعة السعودية – الإيرانية ورعايتها اتفاقاً تاريخياً ومفصلياً يؤسس لعودة العلاقات بين الطرفين، لا تقتصر على الجانب الدبلوماسي بل تشمل دائرتها جميع المستويات السياسية والاقتصادية، يبدو أن النظام الإيراني بدأ يشعر بكثير من الثقة في طرح مواقفه وإستراتيجياته وسياساته التفاوضية على جميع الصعد وبكل الاتجاهات.
في الطريق إلى بكين وفي ظل أجواء لم تكن توحي بأي مؤشر إلى إمكان حدوث اختراق سريع في خط العلاقة بين الرياض وطهران، كان لافتاً مبادرة وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبداللهيان بتكرار مقولة إن بلاده تلقت رسائل إيجابية من الجانب الأميركي حول إمكان العودة للمفاوضات النووية، وإن استئناف هذا الحوار بحاجة إلى خطوة “جريئة” من واشنطن لأن طهران جاهزة للقيام بذلك.
كلام عبداللهيان أخذ بعداً أكثر إصراراً بعد إعلان نجاح الوساطة الصينية في كسر الجمود والمراوحة التي شهدتها جولات الحوار الثنائي بين الرياض وطهران التي استضافتها العاصمة العراقية بغداد، بما يوحي بأن المقصود والهدف منه هو توجيه رسالة إلى الإدارة الأميركية بأن طهران باتت على استعداد لاتخاذ خطوة حاسمة للتوصل إلى تفاهمات مع واشنطن تساعد في تفكيك أزمة الحوار واستئناف المفاوضات النووية وتفعيل مسار رفع العقوبات أو تقليص آثارها السلبية.
حال اللامبالاة أو عدم الاهتمام الأميركي بالاستجابة للمواقف الإيرانية كانت واضحة وكشفت عن وجود حال من عدم الاستعجال الأميركي في تفعيل مسار المفاوضات، وأن واشنطن تنتظر أو تتوقع خطوات أكثر عملية من طهران تسمح أو تفتح الطريق أمام عودة مسار التفاوض، والذي لن يكون شاملاً لكن موزعاً على محاور عدة أو ملفات تؤسس للانتقال إلى الخطوة النهائية.
كان الطرفان الأميركي والإيراني توصلا إلى تفاهم حول نقاط الاتفاق المتعلق بأزمة المعتقلين الأميركيين في السجون الإيرانية، سيامك نمازي وعماد شرقي ومراد طاهباز، بناء على الرواية التي يقدمها عبداللهيان عندما قال “إننا ننظر إلى هذا الملف كمسألة إنسانية بالكامل، وقد توصلنا في مارس (آذار) الماضي إلى التوقيع على وثيقة بيننا وبين الجانب الأميركي بشكل غير مباشر حول هذا الموضوع، إلا أن الأرضية لتنفيذه لم تتوفر، وبالنسبة إلينا فكل شيء جاهز، أما الجانب الأميركي فإنه لا يزال في مرحلة التنسيق الفني”.
محاولة طهران وضع ملف المعتقلين في إطار المسألة الإنسانية والإعلان المتكرر والتأكيد على أنها أنهت كل الأمور اللوجستية الخاصة بها لإنجاز التبادل ترمي بالكرة في ملعب الإدارة الأميركية المترددة في تطبيق ما تم التفاهم عليه خلال الأسابيع الأخيرة بوساطة من سلطنة عمان وإنهاء هذا الملف، وهذه المحاولات والتصريحات تهدف إلى وضع الإدارة الأميركية في مواجهة الرأي العام الداخلي وعائلات المعتقلين والجماعات التي تدعو إلى إنهاء هذه الأزمة الإنسانية، وقد كان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن واضحاً في اتهام إيران باللعب واستغلال الوضع الإنساني لأهالي المعتقلين، وسعيها إلى تأليبهم مع الرأي العام والضغط عليها لإنجاز هذا الملف بسرعة.
الابتزاز الإيراني لواشنطن وإن كان الهدف منه تحريك وتسريع عملية تعليق بعض العقوبات الاقتصادية وتحرير جزء من الأموال الإيرانية المجمدة في الخارج، وهنا يجري الحديث عن نحو 10 مليارات دولار أكثر في بنوك كوريا الجنوبية، فإنه يعبر عن خيبة أمل إيرانية من الموقف والتعامل الأميركيين مع المبادرات التي قامت بها طهران في عدد من الملفات ومنها ملف المعتقلين، إضافة إلى ما قدمته من تعاون في تمرير ملف تشكيل الحكومة العراقية خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2022، والمساعدة بالتزامن مع الحدث العراقي في تسهيل الوصول إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وهي الآن ستكون ملتزمة بالتعاون مع الرياض للمساعدة في حل الأزمة اليمنية وإحلال السلام في هذا البلد وما يشكل هذا الأمر من مطلب أميركي، إضافة إلى كون السلام حاجة ثنائية وإقليمية وتمهيد الطريق لاختبار جدية النيات الإيرانية في التعاون والحد من تدخلاتها في الشؤون الداخلية للدول الإقليمية.
وبعد الكشف عن الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية صينية والذي تسعى واشنطن إلى التأكيد أنها كانت على علم به وبالتقدم الحاصل، وأنها لا تعارض الدور الصيني لما يملكه من قدرة على التواصل مع الجانب الإيراني لا تمتلكها هي، فإن طهران رفعت مستوى ضغطها وابتزازها للإدارة الأميركية بعد أن استطاعت تحقيق هذا الخرق ووضع أزمتها المتوترة مع الرياض على سكة الحل والتطبيع، للقول لواشنطن إنها جادة في تفكيك أزماتها ومشكلاتها مع محيطها الإقليمي، وإنها ذاهبة نحو اعتماد سياسة “صفر أزمات أو مشكلات”، وبالتالي حان الوقت لتأخذ هذه الإدارة خطوة حاسمة تساعد طهران في الانتقال الجدي لوضع أزمة ملفها النووي على طاولة التفاوض والوصول إلى تفاهمات مرحلية تساعد في الأقل على التوصل إلى اتفاق أو تفاهم يؤسس لإقفاله بشكل نهائي.
ومن هنا فإن الزيارة التي قام بها مساعد وزير الخارجية الإيرانية للشؤون السياسية علي باقري كني إلى مسقط بعد الإعلان مباشرة عن “اتفاق بكين” تصب في إطار تحريك الوسيط العماني لتفعيل عملية تبادل المعتقلين وتحرير بعض الأموال الإيرانية، مع الإشارة إلى أن بعض التوقعات تتحدث عن حصول تطورات داخلية في إيران أبرزها إبعاد باقري كني عن ملف المفاوضات النووية وعودته لممارسة دوره كمساعد للشؤون السياسية لوزير الخارجية، وأن يعود عباس عراقتشي إلى الواجهة من جديد وما يعنيه ذلك من رغبة لدى منظومة السلطة وقيادة النظام بالخروج من المراوحة في المفاوضات، وبالتالي تصبح زيارة السلطان العماني هيثم بن طارق المرتقبة خلال الأيام المقبلة إلى العاصمة الإيرانية ذات دلالات تتجاوز مسألة الوساطة في ملف المعتقلين، وأن تحمل معها موقفاً أميركيا واضحاً من الأزمة النووية بناء على تفاصيل المبادرة التي قام بها وسبق لطهران أن فوضته بوضع المبادرة التي يراها مناسبة للحل.
اندبندت عربي