فتح إعلان كل من الرياض وطهران التوصل إلى اتفاق في أوائل الشهر الجاري، لاستئناف العلاقات الدبلوماسية، برعاية صينية، الباب أمام احتمالات خطوة مماثلة قد تفضي إلى عودة العلاقات بين مصر وإيران، المقطوعة منذ أكثر من أربعة عقود.
ووفق مصادر مصرية متطابقة ممن تحدثت لـ”اندبندنت عربية”، فإنه “من بين مسارات متباينة تفرض التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة معالجة أخرى أو تناولاً مغايراً للعلاقات المصرية – الإيرانية، تكون أكثر واقعية من دون الانجرار لتسريع وتيرة تطوير العلاقات في اتجاه عودتها”، مشيرة إلى ضرورة مسبقة لـ”حسم الملفات الخلافية التي أبقت على خيار تجميد العلاقات طوال العقود الماضية”.
المصادر ذاتها تحدثت عن “المتغيرات الجديدة التي فرضتها الحرب الروسية – الأوكرانية المندلعة منذ أكثر من عام، على غالبية الدول، ومن ثم إعادة النظر إلى معادلات التوازن والسعي نحو تبريد الملفات الساخنة وتبني خيارات تصفير المشكلات على المواجهة بين القوي الفاعلة في ضوء ما تمليه المصالح الوطنية والعربية”.
ومنذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 يحكم التوتر والعداء العلاقات بين القاهرة وطهران، إذ استقبلت مصر شاه إيران الذي أطاحته هذه الثورة، ووفرت له الحماية، الأمر الذي اعتبره الحكام الجدد لإيران “تصرفاً معادياً”، في المقابل نظرت القاهرةإلى طهران باعتبارها تشكل مصدراً لتهديد الأمن الإقليمي وزعزعة الاستقرار في المنطقة، لا سيما بعد أن رفعت إيران شعار “تصدير الثورة”، وشجعت الجماعات المتطرفة والدينية، وكان لإطلاق اسم خالد الإسلامبولي، قاتل الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، على أحد الشوارع الرئيسة في طهران، عقبة في طريق محاولات استعادة العلاقات بين البلدين.
كيف رأت القاهرة اتفاق السعودية وطهران؟
وفق تعبير أحد المصادر الدبلوماسية المصرية التي تحدثت إلينا، “لم يكن الاتفاق السعودي – الإيراني مفاجئاً، ولا كان سيناريو التهدئة مستبعداً في الأفكار والتصورات التي خيمت على منطقة الخليج العربي، خلال العامين الأخيرين، وتجلت صورها في جولات التفاوض التي رعتها العراق وسلطنة عمان بين الرياض وطهران”، مشيراً إلى أن رؤية القاهرة للاتفاق تتركز بشكل رئيس على انعكاساته الإقليمية، وأن يقود إلى خفض مساحات التوتر الإقليمي المتصاعد على جبهات عديدة، سواء في فلسطين أو سوريا أو العراق أو لبنان أو اليمن.
المصدر ذاته أوضح أن القاهرة تراقب من كثب تطورات الاتفاق بين البلدين، وما إذا كان سيقود إلى نتائج إيجابية ملموسة، يمكن من خلالها البناء عليها نحو بلورة رؤية أكثر واقعية لشكل العلاقة المستقبلية مع إيران، مشيراً في الوقت ذاته إلى “مخاوف أمنية مشروعة لدى الأجهزة الأمنية المصرية في شأن احتمالات مد شيعي ديني وسياسي، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، فضلاً عن عدم التخلي عن فكر تصدير الثورة الإيرانية إلى العالم العربي سعياً نحو تعظيم النفوذ”.
وفي أوائل الشهر الجاري اتفقت السعودية وإيران، برعاية الصين، على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهران، مع تأكيد احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، فضلاً عن تفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما، الموقعة في 2001، والاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب، الموقعة في عام 1998.
وفي تعليقها على الاتفاق، أعربت القاهرة عن ترحيبها وتطلعها إلى أن يسهم في تخفيف حدة التوتر بالمنطقة. وقالت رئاسة الجمهورية المصرية في بيان، إن “هذه الخطوة مهمة، وإنها تثمن التوجه الذي انتهجته السعودية في هذا الصدد، من أجل إزالة مواضع التوتر في العلاقات على المستوى الإقليمي”، مشددة على تأكيد ارتكازها على مبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة من حيث احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وترسيخ مفاهيم حسن الجوار وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة.
ووفق المتحدث باسم رئاسة الجمهورية المصرية أحمد فهمي، فإن القاهرة تتطلع إلى أن يكون لهذا التطور مردود إيجابي إزاء سياسات إيران الإقليمية والدولية، ويشكل فرصة سانحة لتأكيد توجهها نحو انتهاج سياسة تراعي الشواغل المشروعة لدول المنطقة، بما يعزز من فرص التعاون وتوطيد التواصل الإيجابي فيما بينها، من أجل رسم مسار للعلاقات يلبي آمال شعوب المنطقة في الازدهار والتقدم.
الاتجاه ذاته عبرت عنه الخارجية المصرية، حين قالت إنها تتابع باهتمام اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، وتتطلع إلى أن يسهم في تخفيف حدة التوتر في المنطقة، وأن يعزز من دعائم الاستقرار والحفاظ على مقدرات الأمن القومي العربي، وتطلعات شعوب المنطقة في الرخاء والتنمية والاستقرار.
كيف تنظر القاهرة إلى طهران؟
على مدار الأشهر الأخيرة كان لافتاً المغازلة الإيرانية المستمرة للقاهرة ورغبتها في تطوير العلاقات في ما بينهما وإمكانية فتح حوار بين البلدين في الفترة المقبلة، وذلك من خلال رسائل مباشرة وغير مباشرة عبر قنوات دبلوماسية مختلفة. ففي ديسمبر (كانون الأول) الماضي، رحب وزير الخارجية الإيراني أمير حسين عبداللهيان بمقترح من رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني يهدف إلى “إطلاق حوار بين القاهرة وطهران”. وقال عبداللهيان إن “رئيس الوزراء العراقي أبدى خلال لقائهما معاً في الأردن على هامش الدورة الثانية لـ(مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة)، الرغبة في بدء مباحثات إيرانية – مصرية على المستويين الأمني والسياسي، ما يؤدي إلى تعزيز العلاقات بين طهران والقاهرة”، معرباً عن “ترحيبه بالفكرة”.
الأمر ذاته تكرر في أواخر فبراير (شباط) الماضي، حين أكد الوزير ذاته أن “علاقات إيران مع الأردن ومصر ستشهد تطوراً في الفترة المقبلة”، قائلاً في تصريحات نقلتها عنه صحيفة “الوفاق” الإيرانية، إن “لطهران رؤية إيجابية بأنه من خلال وجود تعاون مستمر مع دول الجوار ودول المنطقة سنرى في المستقبل انفتاحاً أكبر، ورفع سوء الفهم وتنمية العلاقات وتعزيزها مع دول منها مصر والأردن”، معرباً عن اعتقاده أن “فتح صفحة جديدة في العلاقات بين إيران ودول المنطقة يأتي في إطار سياسة طهران الخارجية في عهد حكومة الرئيس إبراهيم رئیسي”.
وفي أعقاب الاتفاق السعودي – الإيراني، أعاد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، الذي كان مسؤولاً عن مكتب رعاية المصالح الإيرانية في القاهرة قبل تولي منصبه الحالي، ناصر كنعاني، طرح الدعوة لاستئناف العلاقة بين الجانبين، منوهاً بأن “مصر دولة مهمة في المنطقة، وكلا البلدين يعتقد بأهمية الآخر، والمنطقة في حاجة إلى دورهما”.
وذكر كنعاني أن “لقاءً عابراً وإيجابياً جرى بين وزير الخارجية الإيراني والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في عمان”، في إشارة إلى “قمة بغداد 2” التي استضافها الأردن في أواخر العام الماضي، موضحاً أن هناك “متابعة لتحسين العلاقات”. وتابع “فيما يتعلق بمصر، نؤمن بأخذ خطوات جديدة لتحسين العلاقات، لكن العلاقات بين الدول تسير على مسار ثنائي، ومن الضروري أن نرى ما هي إرادة الطرف الآخر”.
وفي تصريح آخر، ذكر كنعاني أن بلاده “تنظر إلى توسيع العلاقات مع الدول الصديقة وحل المشكلات وسوء التفاهم معها، ومصر ليست منفصلة عن هذه القاعدة، وإيران تستغل كل الفرص لتحسين العلاقات الخارجية، بما في ذلك مع القاهرة”.
وأمام هذه الإشارات والرسائل الإيرانية في شأن رغبتها في بدء حوار مع القاهرة، تبدو الأخيرة متحسسة لخطواتها في شأن الانفتاح مع طهران.
ووفق أحد المصادر الدبلوماسية التي تحدثت إلينا، فإن “أي تحرك مصري مرتقب باتجاه إعادة النظر في العلاقات المصرية – الإيرانية المجمدة منذ عقود يتوقف على الإشارات الإيجابية التي قد تنتج من الاتفاق السعودي – الإيراني على ملفات المنطقة”، موضحاً “ترى القاهرة في الوقت الراهن أنه لا حاجة إلى التسرع باتجاه أي خطوات في هذا الاتجاه، وعليه فهي ستركز على مراقبة سلوك طهران في المرحلة المقبلة”.
ودون استبعاد انطلاق “محادثات استكشافية” برعاية إحدى الدول في المنطقة بين البلدين في شأن أي خطوات مستقبلية على صعيد العلاقات بين البلدين، دون التكهن بتوقيتها، أوضح مصدر آخر أن “هناك ملفات عاجلة يتطلب معالجتها لما تثيره من شكوك في شأن أي تحرك مستقبلي باتجاه إيران، وتتمثل في تحركات طهران المزعزعة للاستقرار في ملفات فلسطين وسوريا ولبنان، فضلاً عن استمرار إطلاق اسم خالد الإسلامبولي على أحد الشوارع المهمة بالعاصمة طهران”، مشيراً إلى أن “قنوات الاتصال بين مصر وإيران قائمة، ولم تتوقف، في دوائر ذات طابع خاص”.
وفي أكثر من مناسبة أبدت القاهرة استياءها من الخطوات الإيرانية المزعزعة للاستقرار في المنطقة، لا سيما دعمها لأذرعها في لبنان وسوريا واليمن والعراق، فضلاً عن دعمها لحركتي “حماس” و”الجهاد” في فلسطين، معتبرة أن التدخل الإيراني في الدول العربية يزيد من زعزعة الاستقرار ويقوض الأمن القومي العربي والمصري على السواء.
وتابع المصدر ذاته “من بين الإشارات الإيجابية التي قد تدفع نحو بدء محادثات استكشافية مع طهران، هو التوجه العام الذي بات يخيم على منطقة الشرق الأوسط في شأن الميل نحو حلحلة المشكلات العالقة بين القوى الكبرى، والذي تجلى في استعادة العلاقات أو العمل عليها بين غالبية الدول الفاعلة”، في إشارة إلى إنهاء القطيعة العربية بين دول الرباعي العربي (السعودية ومصر والإمارات والبحرين من جهة، وقطر من جهة أخرى)، وطي صفحة الخلافات بين أنقرة وكل من الرياض والإمارات، فضلاً عن العمل على استعادتها مع القاهرة، وكذلك التوجه العربي نحو استعادة العلاقات مع دمشق بعد أكثر من عقد من القطيعة بسبب الحرب السورية.
أي مسار قد تنتهجه العلاقات؟
وفق من تحدثت إليهم “اندبندنت عربية” من مراقبين ودبلوماسيين سابقين، فإنه وعلى رغم التباين في أهمية حدوث تقارب مصري – إيراني بما ينعكس إيجابياً على المصالح العربية ويسهم في حلحلة الملفات العالقة في الإقليم، فإن معالجة الشواغل الخاصة بمصر تبقى ضرورية نحو حدوث أي تقارب محتمل بين البلدين على المديين القريب والمتوسط.
يقول رئيس منتدى الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية سمير غطاس إن “على القاهرة النظر في تعاطيها الخارجي مع مصالحها الوطنية والقومية”، موضحاً أن “أحد المعوقات الرئيسة لمناقشة أي تقارب محتمل بين إيران ومصر، كان يتمثل في ضغوط أميركية رافضة لمثل اتجاه كهذا”.
وذكر غطاس أن السؤال الأبرز الذي يتوجب الإجابة عنه في الوقت الراهن هو تقييم أي تقارب مصري – إيراني في ضوء المصلحة الوطنية المصرية، وما إذا كانت تلك الخطوة ستأتي بنتائج إيجابية على الصعيد الوطني والعربي من عدمه. وتابع “أحد التخوفات الرئيسة تبقى في مدى التزام طهران عدم التدخل في الشؤون الداخلية العربية أو استخدام التشيع الديني والسياسي لزعزعة الاستقرار في البلدان العربية”، معبراً عن إيمانه بأن “مناقشة أي تقارب بين القاهرة وطهران هي مسألة متأخرة، وكان ينبغي التطرق إليها منذ سنوات”.
من جهته، يرى السفير أحمد القويسني مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق أن “الخطوة الأخيرة بين الرياض وطهران تنبئ بخطوات مماثلة مع كثير من الدول العربية، ومن بينها مصر”، موضحاً أن “الجزء غير المعلن في العلاقات المصرية – الإيرانية يتجاوز بكثير ما هو معروف”.
ووفق القويسني الذي كان يتولى ملف دول الجوار العربي في الخارجية المصرية، فإنه “في السابق كانت أسباب تجميد العلاقات بين البلدين وجيهة لدى صانع القرار المصري، وذلك بسبب السعي المستمر من أجهزة الأمن الإيرانية لزعزعة الاستقرار في البلدان العربية وتصدير نموذج الثورة ولتوسيع نفوذهم، فضلاً عن دعم جماعات وتنظيمات تدين بالولاء للمرشد الإيراني، والمد الشيعي السياسي والديني، مما تطلب في المقابل من القاهرة التمسك بتقليص العلاقات الثقافية وتبادل الوفود، مع تجميد العلاقات الدبلوماسية عند مستوى القائم بالأعمال وأقسام رعاية المصالح، وهي من أقل درجات التمثيل الدبلوماسي بين الدول”.
وأوضح القويسني أن “التطورات الأخيرة التي تشهدها المنطقة تفرض على القاهرة مراقبة سلوك طهران وإبداء تفاعل مع الحوار الإيراني في حالة الاستجابة للتخوفات المصرية والتعاطي معها بشكل إيجابي”.
بدوره، يرى الباحث والمحلل السياسي عمر سمير أنه “في الإجمال يعد لجوء القاهرة لإقامة علاقات متوازنة ومستقرة مع جميع القوى الإقليمية المهمة كتركيا وإيران أمراً يخدم المصالح الوطنية المصرية والعربية على حد سواء”، معتبراً أن مثل تلك العلاقات المتوازنة يمكنها أن تعيد مصر وسيطاً إقليمياً مقبولاً في كثير من القضايا الساخنة التي تفتقد وسيطاً جاداً قادراً على حلحلة الأوضاع السياسية وتقديم حلول وسط”.
اندبندت عربي