سواء واصلنا أو لم نواصل فرض مفهوم عالمي لحقوق الإنسان في لحظات الغضب وعدم الفهم، وتحديدًا عندما نعتقد أن الآخرين قد أخرجوا أنفسهم من المجتمع البشري كما نعرفه، فإن هذا يظل يشكل اختباراً لإنسانيتنا ذاتها”.
- جوديث بتلر
* *
لعل إحدى المشاكل في إحياء الذكرى العشرين لـ”حرب العراق” هي أن هذه الحرب لم تبدأ قبل 20 عامًا. لقد كانت جارية ومستمرة لأكثر من عقد من الزمان قبل هجوم “الصدمة والرعب”.
أولاً كان هناك غزو “بابي” بوش (جورج بوش الأب)، تلاه قصف بيل كلينتون للعراق مرة كل ثلاثة أيام خلال فترة ولايته التي استمرت ثماني سنوات، وتصعيد لنظام العقوبات أزهق حياة أكثر من مليون عراقي، جميعهم تقريبًا من المدنيين.
وقد وجد كلينتون أن هناك طرقًا أكثر فعالية وسرية للقتل. وسيكون التظاهر بأن حرب العراق بدأت مع بوش وتشيني مريحًا سياسيًا لليبراليين والديمقراطيين، على الرغم من أن العديد منهم صوتوا لصالح حرب بوش لتغيير النظام في العراق (قبل أن يصوتوا ضدها، على حد تعبير جون كيري).
وحتى بيرني ساندرز (1) أيد حرب العراق عندما كان كلينتون يقوم بالقصف ويفرض التجويع على الأطفال، وصوَّت ساندرز ثلاث مرات لصالح الإطاحة بصدام باعتباره “عضوًا اشتراكيًا مستقلًا في الكونغرس من فيرمونت”.
وإذن، متى بدأت حرب العراق؟ عندما جمع “بابي” بوش قوة غزو في الكويت؟ أم أن ذلك كان عندما التقت السفيرة الأميركية الجديدة في العراق، أبريل غلاسبي، بصدام في 25 تموز (يوليو) 1990 ونصبت له فخًا بقولها: “ليس لدينا رأي في الصراعات العربية-العربية مثل خلافكم الحدودي مع الكويت.
كنت في السفارة الأميركية في الكويت خلال أواخر الستينيات. وكانت التعليمات التي تلقيناها خلال تلك الفترة هي أنه لا ينبغي لنا التعبير عن أي رأي حول هذه القضية، وأن القضية ليست مرتبطة بأميركا. وقد وجه جيمس بيكر المتحدثين الرسميين لدينا لتأكيد هذه التعليمات”.
ويمكن للمرء أن يعود إلى العام 1983 عندما وعد دونالد رامسفيلد، بصفته مبعوث ريغان الخاص إلى الشرق الأوسط، بدعم صدام خلال الحرب المهلكة للطرفين بين إيران والعراق، التي خلفت أكثر من 1.3 مليون قتيل.
أم أن الحرب بدأت قبل 20 عامًا بتورط وكالة المخابرات المركزية في انقلاب رمضان في العام 1963، الذي أدى إلى الإطاحة بالجنرال قاسم وإعدامه وسهَّل صعود صدام والنظام البعثي؟
بطبيعة الحال، بعد الحرب العالمية الثانية، ورث الأميركيون دور بريطانيا كسيد إمبراطوري للشرق الأوسط. وعلى هذا النحو، يمكن للمرء أن ينسب الفضل إلى آرثر “بومبر” هاريس من سلاح الجو الملكي البريطاني في إنشاء سابقة لحملة “الصدمة والرعب” قبل 70 عاما بوصفته في العام 1936 لفرض السلام في الشرق الأوسط: “أسقط قنبلة تزن 250 رطلًا أو 500 رطل في كل قرية تتحدث في الوقت غير المناسب وبالطريقة غير المناسبة. الشيء الوحيد الذي يفهمه العربي هو اليد الثقيلة، وعاجلا أم آجلاً يجب استخدامها”.
في ربيع العام 2003، طلب مني ألكسندر كوبيرن محاولة الإجابة عن هذا السؤال في مقال لمجلة “كاونتربنش”. (كانت لدى كوبيرن، كما فعل في كثير من الأحيان، مواعيد نهائية ملحة أخرى).
وكتبتُ مقالة من 3.500 كلمة، أصبحت فيما بعد مقدمة لكتابنا، “الحروب الصليبية الإمبريالية”. وقد قرأت النسخة الأصلية للمقالة مرة أخرى هذا الأسبوع لأول مرة منذ ما يقرب من 20 عامًا، وعلى الرغم من حقيقة أنه كان هناك الكثير الذي لم نكن نعرفه في ذلك الوقت، فإنها ما تزال صالحة إلى حد كبير.
* *
في الواقع، كانت “الحرب” -التي عرَّفتها حكومة الولايات المتحدة رسميًا على هذا النحو وتم افتتاحها بضربة “قطع الرأس” في 19 آذار (مارس) 2003- مجرد تغيير في وتيرة الحرب الشاملة على العراق، التي بدأت بالعقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة وحصار أميركي منفصل في آب (أغسطس) من العام 1990، وامتدت حتى الهجوم “الساخن” الأول في 16 كانون الثاني (يناير) 1991، وعلى مدى السنوات الـ12 التالية، 1990-2003: كانت حربًا طويلة ورهيبة بالنسبة للشعب العراقي.
في 3 نيسان (أبريل) 1991، وافق مجلس الأمن الدولي على القرار 687، أو ما يسمى “أم جميع القرارات”، وقام بإنشاء “لجنة العقوبات” التي تهيمن عليها الولايات المتحدة.
من المهم كثيرًا أن نفهم أن حرب الخليج “الساخنة” الأولى شُنت ضد شعب العراق بقدر ما شنت ضد قوات الحرس الجمهوري.
فقد دمرت فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها أنظمة المياه والصرف الصحي وتنقية المياه، والشبكة الكهربائية في العراق. وتم هدم كل جسر تقريبًا على نهري دجلة والفرات.
وقصفت القوات الأميركية 28 مستشفى ودمرت 38 مدرسة، وأصابت جميع سدود الطاقة الكهرومائية الكبيرة الثمانية في العراق. وهاجمت صوامع تخزين الحبوب وأنظمة الري.
وغمرت المياه المالحة الأراضي الزراعية بالقرب من البصرة بسبب هجمات الحلفاء.
ودُمر أكثر من 95 في المائة من مزارع الدواجن في العراق، وكذلك 3.5 مليون رأس من الأغنام وأكثر من مليوني بقرة. وقصف الحلفاء مصانع النسيج، ومصانع الأسمنت، ومصافي النفط، وخطوط الأنابيب ومرافق التخزين، وكل ذلك أسهم في خلق كابوس بيئي واقتصادي استمر بلا هوادة تقريبًا على مدى السنوات الاثنتي عشرة.
وعندما واجهته الصحافة بالتقارير عن النساء العراقيات اللواتي يحملن دلاء المياه القذرة من نهر دجلة، الملوث هو نفسه بمياه الصرف الصحي الخام القادمة من محطات المعالجة التي تعرضت للقصف، هز جنرال أميركي كتفيه وقال: “يقول الناس: ’أنتم لم تدركوا أن القصف سيكون له تأثير على المياه والصرف الصحي‘.
حسنًا، ما الذي كنا نحاول أن نفعله بالعقوبات: مساعدة الشعب العراقي لينهض من عثرته؟ ما كنا نفعله بالهجمات على البنية التحتية هو تسريع تأثير العقوبات”.
بعد هذه الحرب “الساخنة” الأولى في أوائل العام 1991، مع تدمير البنية التحتية المدنية والعسكرية للعراق، عادت العقوبات، كجيش غير مرئي لما يمكن أن نسميه “الاحتلال الخارجي”، بقبضة مُحكمة: ولم يكن القصد هو منع العراق من إعادة بناء جيشه فقط، وإنما منعه من بناء أسس اقتصاده ومجتمعه.
على الرغم من الجهود التي كانت تبذلها جماعات مثل “أصوات في البرية”، فإن تأثيرات الحظر لم تكن تلفت القدر نفسه من الاهتمام الذي يجلبه وابل من صواريخ كروز أو وابل من القنابل العنقودية.
لكن إجراءات الحظر كانت أكثر فتكًا بلا حدود، ويستحق الجناة والمديرون التنفيذيون الذين أشرفوا عليها أن ينتهي بهم المطاف إلى المحاكمة كمجرمي حرب، مثل أي ضابط استهداف في البنتاغون.
بحلول العام 1998، كان مسؤولو الأمم المتحدة العاملون في بغداد يجادلون بأن السبب الجذري لوفيات الأطفال والمشاكل الصحية الأخرى لم يعد مجرد نقص الغذاء والدواء، وإنما نقص المياه النظيفة (التي كانت متاحة مجانًا في جميع أنحاء العراق قبل حرب الخليج) والطاقة الكهربائية، التي تعمل الآن بنسبة 30 في المائة فقط من مستوياتها لما قبل القصف، مع ما يجلبه ذلك من العواقب التي يمكن تخيلها بسهولة على المستشفيات وأنظمة ضخ المياه.
كانت العديد من العقود التي صوتت عليها لجنة العقوبات بالرفض بناء على إصرار الولايات المتحدة، جزءًا لا يتجزأ من محاولة إصلاح شبكات المياه والصرف الصحي.
ووفقًا لبعض التقديرات، ألحقت التفجيرات الناجمة عن حرب الخليج ما تقرب قيمته من 200 مليار دولار من الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية المدنية في العراق.
وكشف أحد مسؤولي الأمم المتحدة عن ذلك حين قال: “في الأساس، أي شيء يحتوي على مواد كيميائية، أو حتى مضخات، هو عرضة للاستهداف”.
كانت العقوبات في ذلك الحين بمثابة ذريعة لإعادة هذه الحرب الخفية إلى الشعب العراقي، بهدف “تليينهم” من الداخل، على حد تعبير أحد مسؤولي البنتاغون.
وكان الاتجاه نفسه واضحًا في قطاع إمدادات الطاقة، حيث تم استخدام حق النقض ضد حوالي 25 في المائة من العقود المتعلقة بهذا القطاع.
وهذا يعني أنها لم تكن المنازل وحدها التي ستظل بلا كهرباء، وإنما المستشفيات، والمدارس، والبنية التحتية للحياة اليومية أيضًا.
ولكن، حتى هذا لا يحكي القصة كاملة. فقد أشار مسؤولو الأمم المتحدة إلى “مسألة التكامل”، التي تعني أن تكون المواد التي تتم الموافقة على شرائها عديمة الفائدة من دون المواد الأخرى التي يتم الاعتراض عليها.
وعلى سبيل المثال، (كما ذكرت مجلة “كاونتربنش” في ذلك الوقت) طلبت وزارة الصحة العراقية ما قيمته 25 مليون دولار من كراسي أطباء الأسنان.
ووافقت لجنة العقوبات على هذا الطلب، وإنما باستثناء الضواغط (الكومبريسرات)، التي من دونها كانت الكراسي عديمة الفائدة، وتُركت بالتالي لتجمع الغبار في مستودع في بغداد.
كانت ممارسة حق النقض لرفض تمرير الأشياء مصدرًا للمضايقة المستمرة، حتى بشأن القضايا التافهة. في شباط (فبراير) 2000، تحركت الولايات المتحدة لمنع العراق من استيراد 15 ثورًا من فرنسا.
وكان العذر هو أن الحيوانات، التي تم طلبها بمباركة من مكتب الأمم المتحدة الإنساني في بغداد لمحاولة إعادة تنشيط صناعة لحوم البقر العراقية، ستحتاج إلى لقاحات معينة، والتي (من يدري؟) قد يتم تحويلها إلى برنامج لصناعة أسلحة بيولوجية للدمار الشامل.
ومع ذلك، يتضاءل الاعتراض على استيراد الثيران أمام مبادرة الحكومة البريطانية، التي حظرت تصدير لقاحات الكزاز والدفتيريا والحمى الصفراء على أساس أنها أيضًا ربما تجد طريقها إلى أيدي مصنّعي أسلحة صدام البيولوجية.
وكان شعار التبرئة الذاتية للمسؤولين الأميركيين والبريطانيين هو أن “الغذاء والدواء معفيان من العقوبات”. وكما يُظهر حظر اللقاحات، يتبين أن هذا الادعاء، مثله مثل العديد من التصريحات الأخرى حول العراق، لم يكن أكثر من كذبة.
في الحقيقة، اتسمت سياسة العقوبات دائمًا بأعمال وحشية فظيعة. منذ العام 1991، استخدمت الولايات المتحدة وبريطانيا حق النقض (الفيتو) ضد طلبات العراق من أجل: أغذية الأطفال الرضع؛ كرات تنس الطاولة؛ أجهزة الحواسيب لمستشفيات الأطفال لتحليل الدم؛ السخانات؛ مبيدات الحشرات؛ المحاقن؛ الدراجات؛ طلاء الأظافر وأحمر الشفاه؛ كرات التنس الأرضي، ملابس الأطفال ومبراة أقلام الرصاص والدفاتر المدرسية؛ وكرات القطن وعيدان القطن للتنظيف؛ وأجهزة الراديو وأجهزة الاستدعاء (البيجر) في المستشفيات وسيارات الإسعاف؛ وقماش الأكفان.
ولا يعني الهجوم المطول على الشعب العراقي بنظام العقوبات أن الهجوم العسكري المباشر توقف في آذار (مارس) 1991.
الواقع أن العراق، على الرغم من أن ذلك لم يحظ بأكثر من اهتمام ضئيل في الصحافة، تعرض للقصف بالقنابل أو الصواريخ كل ثلاثة أيام في المتوسط منذ وقف إطلاق النار الذي زُعم أنه يشير إلى نهاية حرب الخليج الأولى.
وقد تم تحظيم نظام دفاعه الجوي الضعيف أصلاً وتشويش راداراته وقصفها؛ وتم تحييد قواته الجوية وإلزامها الأرض، وحُفرت مدارج مطاراته مرارًا وتكرارًا؛ وتم تدمير أسطوله البحري، البدائي في الأساس.
واحتلَّت أراضيه الشمالية والجنوبية قوات معادية، تلقت التسليح والتمويل والإشراف من وكالة المخابرات المركزية الأميركية.
كما تم فحص وتدقيق كل جزء من البناء الجديد في البلاد بحثًا عن أي وظيفة عسكرية محتملة له بواسطة كاميرات الأقمار الصناعية القادرة على التكبير إلى متر مربع. وتمت مراقبة قوافل الشاحنات والدبابات بحماس.
وتم تحديد مواقع القوات وتعيين مخابئها، وتمت برمجة الإحداثيات في برنامج الاستهداف الخاص بالقنابل الخارقة للتحصينات.
لم يكن العراق بعد حرب الخليج دولة مارقة. كان دولة أسيرة. كانت هذه المضايقات العسكرية اليومية هي الوضع الطبيعي للأشياء، ولكن كانت هناك أيضًا عروض أكثر شراسة للقوة.
في حزيران (يونيو) من العام 1993، وافق بيل كلينتون على توجيه ضربة بصواريخ كروز إلى بغداد، على ما يبدو ردًا على محاولة مزعومة وفاشلة بالتأكيد قام بها عملاء عراقيون لاغتيال جورج بوش الأب خلال جولته المظفرة في الكويت.
وتم إطلاق ثلاثة وعشرين صاروخ كروز على بغداد من حاملتي طائرات في الخليج العربي/ الفارسي. وبدقة قاتلة، أصابت 8 من الصواريخ ضاحية سكنية في بغداد، مما أسفر عن مقتل العشرات من المدنيين، بمن فيهم واحدة من أبرز الفنانين العراقيين، ليلى العطار.(2)
ثم في كانون الأول (ديسمبر) من العام 1998، شُنت غارة أخرى على بغداد، كان من المقرر أن تصرف الانتباه عن تصويت مجلس النواب الأميركي على مسألة عزل كلينتون.
وهذه المرة، انهمر أكثر من 100 صاروخ على بغداد والموصل وتكريت والبصرة، مما أسفر عن مقتل المئات من المدنيين. وأعلن ستان غرينبيرغ، كبير منظمي استطلاعات الرأي الخاصة بكلينتون، الأخبار السارة بأن عمليات القصف تسببت في قفزة لأرقام استطلاعات كلينتون بمقدار 11 نقطة. عندما تخامرك أي شكوك، قم فقط بقصف العراق.
ولم تغب هذه الرسالة عن بال بوش.
في أواخر شباط (فبراير) من العام 2001، بعد أقل من شهر من توليه منصبه، أطلق جورج بوش الابن عشرين صاروخ كروز على بغداد، في ضربة وصفها دونالد رامسفيلد بأنها “عمل انتقامي وقائي”.
وإلى جانب هذه الهجمات، كانت وكالة المخابرات المركزية منهمكة في رعاية محاولات الاغتيال. وبعدم كفاءة كوميدي في بعض الأحيان، كانت تحاول القيام بانقلابات ضد صدام حسين.
بعد خمس سنوات من فرض العقوبات عليه، كان العراق قد أصبح في حالة يائسة. امتلأت المستشفيات بالأطفال المحتضرين، وكانت الأدوية اللازمة لإنقاذهم محظورة بموجب أوامر المسؤولين الأميركيين في نيويورك الذين يشرفون على عمليات لجنة العقوبات.
ومات نصف مليون طفل في هذه الفترة الزمنية. كانت معدلات الوفيات ترتفع بسرعة مرعبة. في العام 1989، ارتفع معدل وفيات الأطفال الرضع من 47 لكل 1.000 في العام 1989 إلى 108 لكل 1.000 في العام 1996.
وبالنسبة للأطفال دون سن الخامسة، كان المعدل أسوأ، حيث ارتفع من 56 وفاة لكل 1.000 في العام 1989 إلى 131 لكل 1.000 في العام 1996. وبحلول العام 1996، كان عدد الوفيات يصل إلى 5.000 طفل شهريًا، وهو ما أدلت عنه مادلين أولبرايت بتعليقها الشائن حين قالت: “نعتقد أن الثمن يستحق ذلك”. (يُتبع)
*جيفري سانت كلير
الغد