المواجهة العسكرية الأميركية – الإيرانية في شمال شرقي سورية بين يومي الخميس والجمعة 23 و24 مارس (آذار) طرحت المخاوف من أخطار تطور الصراع بين الدولتين على الأراضي السورية إلى حرب استنزاف على خلفية الطروحات والمطالبات من كل من الجهتين بانسحاب الأخرى من بلاد الشام.
وقفزت إلى الواجهة أسئلة كثيرة حول أسباب معاكسة هذا التطور العسكري لمناخ الاسترخاء الذي رجّح معظم التوقعات أن يغلب على الأجواء الإقليمية بفعل الاتفاق السعودي – الإيراني في بكين في 10 مارس، ومظاهر الانفتاح العربي على سوريا الذي تدرجت وقائعُه منذ كارثة الزلزال الذي أصاب سوريا وتركيا في السادس من فبراير (شباط) الماضي، بزيارات وزراء خارجية عرب لدمشق.
الرد على الإسرائيليين بضرب الأميركيين
فالمواجهات بين إيران وأميركا التي تدرجت في خلال 48 ساعة هي “الأخطر في المنطقة منذ عام 2019” كما أشارت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، و”تنذر بانتهاء جهود خفض التوتر في المنطقة برمتها”. فالقوات الأميركية في سوريا في حالة تأهب متواصلة منذ يناير (كانون الثاني) عام 2021، لأنها تعرضت منذ حينها، بحسب الصحيفة، لما يقارب 78 هجوماً.
ويلفت مراقبون إلى أن القوات الأميركية في سورياكانت ترد على بعض هذه الهجمات وتعلن عن ذلك أحياناً، وتمتنع عن ذلك أحياناً أخرى، فضلاً عن أنها المرة الأولى التي تتهم فيها إيران مباشرة بأنها خلف القصف على أحد مواقعها في حقل “العمر” النفطي عبر ميليشيات موالية لها في المواجهة الأخيرة. كما أنها المرة الأولى التي تضطر فيها الولايات المتحدة لأن ترد على مقتل أحد جنودها، وهو متعاقد، وجرح خمسة آخرين، إذ إن المواجهات السابقة بقيت أضرارها محدودة.
كانت المواجهات تحصل في السابق على خلفية الاستهداف الإسرائيلي المتواصل للقواعد التابعة لـ”حرس الثورة” الإيراني ولمواقع الميليشيات التابعة له في سوريا، ولمستودعات الأسلحة التي تواصل طهران إرسالها إما براً عبر العراق، أو جواً، وتخزينها في مناطق تتواجد فيها هذه الميليشيات سواء في شكل مستقل أو في ثكنات مشتركة مع الجيش السوري. وتسبب القصف الإسرائيلي بمقتل إيرانيين بينهم ضباط في “حرس الثورة” في بعض الحالات. وأحياناً كانت تحصل جراء قصف في العراق من قبل فصائل من “الحشد الشعبي” الموالية لإيران ضد القواعد الأميركية في بلاد الرافدين، فترد القوات الأميركية على الميليشيات العراقية المتواجدة عند معبر البوكمال على الحدود العراقية – السورية.
إلا أن هذه المواجهات كانت تجري أيضاً نتيجة قرار إيراني بالرد على الغارات الإسرائيلية عبر استهداف القواعد الأميركية باعتبار أن طهران تريد تجنب صدام عسكري مع إسرائيل، سواء في سوريا أو في لبنان، من جهة، ولأنها تعتبر أن الغطاء الأميركي للدولة العبرية يتيح لإسرائيل مواصلة ضرباتها من جهة ثانية، حتى في ظل المفاوضات الأميركية – الإيرانية على النووي.
قصف مطار حلب مرتين
يلفت المراقبون إلى أن الميليشيات الموالية لإيران استهدفت القاعدة الأميركية في حقل العمر النفطي بعد تكثيف الغارات الإسرائيلية خلال الشهرين الماضيين على امتداد الأراضي السورية من مطار دمشق ومحيطها (كفرسوسة)، إلى ريف العاصمة، وصولاً إلى منطقة الميادين ومطار حلب، الذي أدى استهدافه إلى خروجه الموقت عن الخدمة مرتين، في خلال أسبوعين الأولى في 6 مارس، والثانية في 22 مارس، أي قبل يوم واحد من استهداف قاعدة “حقل العمر” الأميركية.
ما أدى إلى استخدام القيادة المركزية الأميركي طائرتي “أف 15″ من قاعدة العيديد في قطر، لاستهداف مواقع أوضح وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أن مجموعات تابعة لـ”حرس الثورة” الإيرانية تستخدمها. وخلّف القصف بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل 14 عنصراً من الميليشيات الموالية لإيران والتابعة للنظام السوري في منطقة الحسكة. واقتضى الرد الأميركي في اليوم التالي (24 مارس)، على الرد الإيراني ضد أكثر من قاعدة أميركية في منطقة دير الزور، إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن في شكل جازم أنه لا يريد الحرب مع إيران “لكننا سنكون حازمين بالقيام بما يلزم لحماية جنودنا”. وهي المرة الأولى يتناول فيها الرئيس الأميركي الوضع العسكري في سوريا.
طهران ودمشق: “إنهاء الاحتلال الأميركي”
إضافة إلى هذا التفسير لتصاعد التوتر بين الجانبين الأميركي والإيراني، والذي يحصر أسبابه بالجانب العسكري، يمكن تسجيل عوامل سياسية أخرى تتعلق بالتطورات الإقليمية. ويمكن تظهير هذه العوامل من خلال البيانات التي صدرت عن كل من دمشق وطهران عقب المواجهة التي حصلت والتي اتفقت على تكرار عبارة “إنهاء الاحتلال الأميركي” في سوريا.
فالمتحدث باسم المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران كيوان خسروي، رد في بيان في 25 مارس على “تصريحات المسؤولين الأميركيين بشأن مشاركة إيران في الهجوم على القواعد غير الشرعية لهذا البلد (أميركا) في سوريا”، بالقول إن “الولايات المتحدة تحاول من خلال التهرب من تداعيات الاحتلال غير الشرعي لجزء من الأراضي السورية والاتهامات الموجهة لإيران غير صحيحة”.
واتهم واشنطن “بإنشاء ودعم “داعش” كأداة بديلة لتحقيق مآرب سياسية في سوريا والعراق وأنها “في اليومين الماضيين نقلت مروحيات أميركية إرهابيي “داعش” في أراضي هذا البلد (سوريا) وعليهم أن يتحملوا مسؤولية ذلك”. ورأى أن “أي ذريعة لمهاجمة القواعد التي أُنشئت بطلب من الحكومة السورية للتصدي للإرهاب وعناصر “داعش” ستقابل على الفور برد مضاد”.
وأعقب كلام خسروي بيان للخارجية الإيرانية، أوضح أن “استمرار الوجود الأميركي العسكري غير الشرعي في سوريا واحتلال جزء من أراضي هذا البلد انتهاك للقوانين الدولية”. وأكدت الخارجية الإيرانية، أن “ادعاء أميركا بأن وجودها في سوريا هو لمحاربة “داعش” ذريعة لاستمرار الاحتلال ونهب الثروات السورية”، مشددةً على أنه “لا يمكن النسيان أبداً أن قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني ومستشاريه الإيرانيين كان لهم الدور المهم في محاربة الإرهاب في سوريا”.
بيان الخارجية السورية بإدانة القصف الأميركي تأخر إلى اليوم التالي لصدور البيانين الإيرانيين فتحدثت عن “الأكاذيب الأميركية الممجوجة بشأن المواقع المستهدفة محاولة فاشلة لتبرير هذا العمل العدواني والانتهاك الفاضح على سيادة سورية ووحدة وسلامة أراضيها، واستكمال للاعتداءات التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي وقطعان “داعش” الإرهابية وستار دخان للتغطية على مواصلة قوات الاحتلال الأميركي سرقتها النفط السوري”. ودعت الخارجية السورية إلى “إنهاء الاحتلال الأميركي”.
استباق لطرح الانسحاب الإيراني؟
لتطابق الموقفين في طرح شعار الانسحاب الأميركي من سوريا أسبابه. فالانطباع الذي تركه تصعيد إيران الميداني والسياسي أنها نقلت عملياتها ضد الوجود الأميركي من العراق إلى سوريا، بعد إعلان رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني المنتمي إلى الفريق الحليف لطهران، أن بغداد ما زالت تحتاج للمساعدة الأميركية.
وفي وقت رأى بعض المراقبين أن تصعيد المواجهة بين إيران وأميركا في سوريا له وظيفة روسية في ظل تعزيز الجانب الأميركي وجوده في سوريا بعد زيارة رئيس أركان الجيوش الأميركية الجنرال مارك ميلي للقوات الأميركية شرق الفرات في 4 مارس، اتجهت أنظار بعض المراقبين إلى المفاعيل المنتظرة لاتفاق بكين بين السعودية وإيران على استئناف تبادل السفراء، والذي يمر باختبارات مهلة الشهرين للتدابير التي يفترض أن تُتَوّج بهذه الخطوة. وهناك ترقب لانعكاس المصالحة بين الدولتين على الوضع في سوريا، وسط حديث عن خطوات منتظرة للتطبيع العربي مع دمشق، مع ما يعنيه الانفتاح عليها من فتح باب المساعدات في مواجهة أزمتها الاقتصادية الخانقة.
في قراءة أوساط متابعة للمواقف الدولية أن البيان الرباعي الذي صدر في الذكرى الثانية عشرة لاندلاع الثورة السورية عن كل من الولايات المتحدة الأميركية، بريطانيا، فرنسا وألمانيا في 16 الجاري، استفز التحالف السوري – الإيراني بفعل نصه على أن الدول الأربع “لا تطبع العلاقات مع نظام الأسد، ولا تمول إعادة إعمار الأضرار التي ألحقها النظام خلال الصراع”. وربطت التطبيع بـ”تقدم حقيقي ودائم نحو حل سياسي”. ولفت البيان إلى “منع نظام الأسد من الاستفادة من المساعدات بعد الزلزال على حساب الشعب السوري ومن إعفاءات طارئة من سياسات العقوبات التي تسهل إيصال المساعدات”.
العقوبات على سوريا وإيران والاستثمارات
ويشكل الموقف الرباعي الغربي عائقاً أمام آمال النظام السوري بالمساعدات المالية العربية في حال التطبيع السياسي معه، ما يدفع إلى التصعيد ضد الوجود الأميركي في بلاد الشام.
أما من جهة طهران فإن ما تردد عن أن بعض الأفكار المطروحة على الصعيد العربي في سياق جهود التطبيع تتناول مسألة الوجود الإيراني في سوريا، بدءاً من تجميد الاتفاقات الاقتصادية المعقودة بين دمشق وطهران والتي تعطي الأخيرة امتيازات في الاقتصاد السوري، فضلاً عما تسرب عن أن هناك مسودة مبادرة عربية تتوخى الاتفاق مع دمشق على خطوات لإعادة النازحين السوريين إلى مناطقهم مع إمكان دخول قوات عربية للمشاركة في حماية هذه العملية. وهذا أمر يقلق طهران طبعاً، ويدفعها إلى استباق الأمر بطرح الانسحاب الأميركي.
فهل يؤدي التصعيد العسكري والسياسي في الميدان السوري إلى تحريك الاتصالات بين واشنطن وطهران التي يهمها من الاتفاق مع الرياض الاستثمارات السعودية في أسواقها، ما يتطلب رفعاً للعقوبات الأميركية المشددة عنها؟
اندبندت عربي