تقوم العلاقات الدولية على قاعدة الحذر فى تفسير الآثار المترتبة على الأحداث المحورية التى تقع بين الدول التى تنتمى إلى إقليم معين ولديها مصالح مشتركة فيه، وتشير الوقائع التاريخية إلى أنه لا يجوز التهوين أو التهويل من تلك الأحداث، لأن التهوين يكرس الصور الذهنية النمطية للآخر، كما أن التهويل يحد من القدرة على الحكم الدقيق والعملى على سلوك الآخر. ومما لا شك فيه أن الإعلان الثلاثى الصينى السعودى الإيرانى بشأن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران يعد تحولا مفاجئا وهاما فى مسيرة العلاقات بين الدولتين من زاوية تأثيره الإيجابى المحتمل على القضايا الإقليمية الشائكة كالحرب فى اليمن والاستقرار فى العراق، والوضع فى سوريا والأزمة فى لبنان، ومضيق هرمز وغيرها، إلا أن ذلك لا يعنى أن الإقليم سينتقل من العلقم إلى المن والسلوى، أو أن العلاقات العربية الإيرانية ستتحول بعد شهرين إلى «عسل وسكر» لأن هذه كلها لا تمت لحقيقة العلاقات الدولية بأية صلة.
يطرح الإعلان الثلاثى بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران بعد شهرين قضايا فى غاية الأهمية، نحن على أعتاب التحول إلى نظام دولى جديد، تعددى فى قيادته، متنوع فى هويته، تلعب فيه الصين وروسيا دورا حاسما، حقيقة العلاقات الدولية تكمن فى الجمع اليومى بين الصراع والتعاون، فلا توجد علاقات ثنائية صراعية تماما أو تعاونية دائما، إن الدور التقليدى للعمل الدبلوماسى فى التفاوض الدولى بدأ يتوارى، لتحل محله دبلوماسية القمة من ناحية، وتعاظم دور الأجهزة الأمنية فى العلاقات الدولية من ناحية أخرى، كما أن العلاقات الدولية تتحول بسرعة من علاقات القوة العسكرية إلى التفاعلات الاقتصادية والمالية والثقافية.
من نافلة القول التأكيد على أن نجاح الصين فى التقريب بين السعودية وإيران يصب فى تكريس الدور العالمى للصين والذى تسعى إليه منذ إنشاء مجموعة البريكس عام 2009 والتى تضم روسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا إلى جانب الصين، وهى المجموعة التى تضم حوالى 41% من سكان العالم وتغطى ما يربو على ثلث مساحة العالم ويبلغ ناتجها الإجمالى ما يناهز 40% من الناتج الإجمالى العالمى. ولقد أنشأت المجموعة بنك التنمية الجديد والذى يتوقع أن يحل محل البنك الدولى وصندوق النقد الدولى، كما أن الصين وروسيا عضوان فى منظمة شنغهاى للتعاون والتى تضم نصف سكان العالم وتغطى 60% من مساحته، والصين أكبر شريك تجارى فى العالم وهى الثانية بعد الولايات المتحدة فى مقدار الناتج القومى الإجمالى، وهى ثانى دولة دائنة للولايات المتحدة بحوالى 1.1 تريليون دولار. ولهذا تسعى الصين وروسيا إلى أن يتحول النظام الدولى من سيطرة الولايات المتحدة إلى تعددية نوعية وجغرافية، وتشكل الحرب الروسية الأوكرانية حصان طروادة لبناء هذا النظام، كما أن نجاح الصين فى تحقيق الوئام بين السعودية وإيران يدفعها بالتأكيد إلى التوسط فى صراعات دولية معقدة. فقد قدمت مبادرة لتسوية الحرب الروسية الأوكرانية، ويمكن أن تتوسط بين إسرائيل والفلسطينيين، وبين مصر وإثيوبيا بشأن سد النهضة والتقريب بين الصوماليين… وهكذا تلعب الصين على أوتار السلام التعاونى، بينما تتبنى أوروبا والولايات المتحدة منظور التصعيد إلى حافة الهاوية، وهو ما لا يمكن احتواؤه أو تحجيم آثاره.
• • •
العلاقات الدولية لا يمكن أن تتحول إلى صراع مطلق وإلا انهارت البشرية كما لا يمكن أن يقام بها تعاون مطلق وإلا تحولت البشرية إلى دولة واحدة، من ثم فإن العلاقات الثنائية بين الدول تجمع بين الصراع والتعاون يوميا على مقياس يبدأ من التعاون الرمزى وحتى الاندماج، ومن الصراع الرمزى وحتى تفاقم الصراع فالأزمة ثم الحرب. ومن هنا فإن العلاقات الدبلوماسية بين الدول لا تعنى التعاون فقط بل تضم كلا من التعاون والصراع بدرجات مختلفة، وتصير العبرة بأيهما يصبغ العلاقات الصراع أم التعاون، فمثلا هناك علاقات دبلوماسية بين الأردن وإسرائيل وصراع مستمر بشأن مستقبل القدس والقضية الفلسطينية، إيران شريك تجارى مهم للإمارات ومع ذلك فإنها تحتل ثلاث جزر للإمارات، روسيا تقيم علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى، ومع ذلك تتخذ الأخيرة مواقف صراعية حادة تجاه روسيا فى الحرب ضد أوكرانيا.. وهكذا. إذن مع وجود العلاقات الدبلوماسية لا تختفى العلاقات الصراعية بين الدول، وهذا بالضرورة ينطبق على إيران ودول الخليج كلها.
ليس جديدا القول بأن للدبلوماسية وظيفتين هامتين إلى جانب وظائف أخرى، وهما التفاوض وجمع المعلومات. بيد أن التطورات الدولية المتسارعة منذ عدة سنوات أدت إلى تضاؤل دورها فى التفاوض حينما حلت محلها دبلوماسية القمة. إذ تجتمع قيادات الدول وتتفاوض وتتخذ القرارات التى تعدها جهات الاختصاص، كما أن جمع المعلومات يتم اليوم بوسائل تكنولوجية متاحة بما فيها اختراق أجهزة المعلومات ذاتها، الجديد فى العلاقات الدولية اليوم هو الدور المتزايد والحيوى والفعال للأجهزة الأمنية. فالمفاوضات بين السعودية وإيران بوساطة الصين تمت بين أعلى جهاز أمنى فى كل دولة، كما أن المفاوضات المتعلقة بالصراع اليومى بين إسرائيل والفلسطينيين تتم بين الأجهزة الأمنية من مصر والأردن وإسرائيل وفلسطين والولايات المتحدة، كما أن مستشار الأمن القومى الأمريكى زار كييف وتل أبيب قبل أن يزورهما وزير الخارجية الأمريكى. إن ذلك يشير بوضوح إلى أن الأجهزة الأمنية التى كانت تعمل من وراء ستار فى العلاقات الدولية تبوأت مركز الصدارة وتوارت خلفها المؤسسة الدبلوماسية ومن المؤكد أن هذا الدور سيزداد قوة وفاعلية مع تعقد العلاقات الدولية.
• • •
إن الدور الصينى الجديد والمتزايد يؤشر إلى التحول فى النظام الدولى قيد التشكيل إلى العلاقات الاقتصادية والمالية والثقافية بدرجة أكبر من التنافس العسكرى الذى يهدد الاستقرار الدولى، وتتربع على هذا التطور مبادرة الحزام والطريق أو طرق الحرير الجديدة، التى أعلنها الرئيس الصينى شى جين بينج عام 2019 والذى يربط الصين تجاريا بأكثر من 130 دولة فى قارات العالم المختلفة. ولقد استخدمت كل من روسيا والصين التعاون الاقتصادى والمالى لتوسيع نفوذهما فى مناطق العالم المختلفة خاصة فى أفريقيا. إن هذا التحول فى العلاقات الدولية لا يمكن أن تستسيغه المؤسسات الصناعية العسكرية ذات النفوذ الواسع فى أوروبا والولايات المتحدة، وإن كان قد تحول إلى واقع جديد يسم النظام الدولى القادم.
لا يمكن التقليل من الأهمية القصوى لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية الشقيقة وإيران للدولتين وللإقليم، لكن هذا التطور لن يمس حقيقة العلاقات الثنائية بينهما أو بين غيرهما والتى تجمع فى طياتها كلا من الصراع والتعاون فى آن واحد، ويظل التحدى قائما حول كيفية تخفيف حدة الصراع وتكريس قوة ومتانة وفاعلية التعاون الثنائى والإقليمى.
د. عبدالمنعم المشاط
صحيفة الشروق المصرية