لا حدود للقراءات في الاتفاق السعودي- الإيرانيبرعاية الصين، وكلها قراءات قبل أن تتبلور الصورة والتأكد من أن “اتفاق بكين” هو فقط ما جاء في النص المكتوب المعلن أم أن فيه بنوداً غير معلنة، ومعظمها يحمل الاتفاق أكثر مما يحمل في الواقع الإقليمي والدولي الذي نحن فيه، فالعقدة الكبيرة ليست في الشرق الأوسط بمقدار ما هي في الشرق الأقصى حيث المواجهة الأميركية – الصينية، وفي أوروبا حيث حرب روسيا على أوكرانيا ومع “الناتو” بالوكالة، والحل الاستراتيجي والجيوسياسي الجذري الذي ينهي حقبة ويبدأ حقبة جديدة يبدأ من العقدة الكبيرة، لكن من الصعب تجنب السرعة في القراءات خلال مهلة الشهرين المقررة لاستئناف العلاقات الدبلوماسية وتبادل فتح السفارات بين الرياض وطهران.
بعض هذه القراءات السريعة، لا سيما لدى “محور الممانعة” يوحي أن هذا المحور انتقل من خوض المعارك إلى ربح الحرب وأن مستقبل المنطقة له، وبعضها الآخر، لا سيما لدى خصوم هذا المحور، يرى أن مرحلة المد في موجة النفوذ الإيراني وصلت إلى النهاية لتبدأ مرحلة الجزر، والكل يتصور أن التغيير كبير، لكن الخلاف هو حول نوع التغيير الاستراتيجي والجيوسياسي من دون التوقف أمام احتمالات أن يقتصر التغيير على الجانب التكتيكي. هل هو تغيير سلبي أم تغيير إيجابي؟
نص الاتفاق في حد ذاته يقدم جواباً ملموساً هو “احترام سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية”، فكيف يمكن أن تكون الترجمة العملية لذلك هي التسليم بتكريس النفوذ الإقليمي الإيراني في بغداد ودمشق وبيروت مقابل تسوية في صنعاء؟ هل يبقى “حزب الله” مصراً على التهديد بنوع من “الفوضى في المنطقة كلها “رداً على ما يقال عن “مؤامرات” لدفع لبنان إلى فوضى كاملة؟ وهل يستمر لبنان في السير عكس اتجاهات المنطقة ضمن رهان على أن المنطقة ذاهبة في الاتجاه اللبناني “المقاوم” أم أن منطق التوجه في المنطقة يسود في لبنان أيضاً؟ وماذا عن الانفتاح العربي على سوريا وتأثيره داخل سوريا وعلى لبنان؟
الأسئلة تذهب إلى أبعد من ذلك، لكن الواقع أن التغيير الجوهري الاستراتيجي والجيوسياسي في الشرق الأوسط يتطلب أمرين مهمين جداً إلى جانب أمور أخرى، أولهما إيجاد تسوية عادلة وشاملة للصراع العربي- الإسرائيلي ومن ضمنها “حل الدولتين” في فلسطين، وثانيهما نهاية المشروع الإقليمي الإيراني على حساب العرب، وعودة طهران إلى التركيز على بناء الدولة بدل البقاء ثورة، وعلى التنمية الاقتصادية الشاملة مع ما في إيران من إمكانات وقدرات وخبرات، ذلك أن الصراع العربي – الإسرائيلي قاد إلى استنزاف القدرات العربية وتأخير التنمية لحساب العسكرة والإنفاق الحربي، وأميركا التي استأثرت برعاية عملية السلام لم تلعب دور “السمسار الشريف” كما يجب. ويعترف الدبلوماسي الأميركي المخضرم الذي كان له دور في السمسرة مارتن إنديك في كتاب “سيد اللعبة: هنري كيسينجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط” بأن كيسينجر “لم يكن مهتماً لضمان السلام بمقدار ما اهتم لاستقرار النظام الإقليمي، حيث تبقى أميركا لا يستغنى عنها”، أي إن عملية السلام كانت عن العملية لا عن السلام، والصراع العربي- الإيراني أدى إلى خلق مشكلة جديدة في المنطقة وصرف الأنظار عن الصراع العربي- الإسرائيلي وتوجيه الجهود نحو اهتمامات أخرى، والتسوية فيه أبسط وأسهل إذا كان التركيز على البناء الداخلي في كل دولة من دون التدخل في الشؤون الداخلية لبلدان أخرى، وليس “اتفاق بكين” سوى بداية طريق لا أحد يعرف كم تطول، لكنها تفتح الباب لمستقبل مهم للإقليم، والوقت حان لأن ترتاح هذه المنطقة المتعبة من حمل السلاح إلى ما لا نهاية.
اندبندت عربي