بعد عقدين من غزو العراق

بعد عقدين من غزو العراق

غزو الرئيس العراقي صدام حسين للكويت كان جريمة ضد دولة عربية مجاورة ومخالفة صريحة للقانون الدولي وخطأ فادحاً كلّف العراق كثيراً ومثّل بداية النهاية للأمن القومي العربي الجماعي، لما ترتب عليه من شك وقلق وعدم ثقة بتأمين الأوطان عربياً وفتح الباب على مصراعيه للاعتماد على جهات أجنبية لتحقيق التأمين الوطني، بخاصة إزاء التهديدات الوجودية.

وإزاء الغزو أصدر مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة قرارات عدة ضد العراق، وتشكل تحالف عسكري متعدد الجنسيات لتحرير الكويت بقيادة أميركية، وشمل مصر وسوريا، تعبيراً عن رفضه من حيث المبدأ احتلال الأراضي بالقوة، مهما طرحت من حجج ومبررات.

وفي 2003 قررت الولايات المتحدة تحت رئاسة جورج بوش الابن غزو العراق من دون سند قانوني أو شرعي وخارج المنظومة الدولية، وهو ما رفضته مصر وسوريا وآخرون حتى من حلفاء أميركا، وهي خطوة مر عليها عقدان من الزمن الآن، وما زال حولها الكثير من التساؤلات.

وقد سمح لي تمثيل مصر سفيراً في الولايات المتحدة من 1999 – 2008 بمتابعة الأحداث المرتبطة بغزو العراق عن قرب، وأن أكون في قلب تلك المرتبطة بالمواقف المصرية. مع هذا، أعترف بكل صراحة أن هناك كثيراً من الخبايا حول الموقفين الأميركي والبريطاني لا تزال غامضة، ولن تتضح إلا مع مرور الوقت، وبعد الإفراج عن مستندات دولية عدة ودراستها من قبل المؤرخين.

وأعتقد بأن من الأحداث التي يجب التوقف عندها ما حصل قبل غزو العراق، بل مرتبط بالتهديدات العراقية للكويت، عندما التقى صدام والسفيرة الأميركية أبريل غلاسبي التي نقلت له رسالة خلص منها الرئيس العراقي إلى أن الولايات المتحدة لن تتدخل في الخلاف العراقي – الكويتي، وهناك أقاويل كثيرة ومتضاربة عما قيل بالضبط، حاولت الإدارة الأميركية نفي أي اتهام بأنها أعطت صدام الضوء الأخضر حتى بشكل غير مباشر، علماً أن السفيرة سجلت في مذكراتها بعد ذلك أنها نقلت التعليمات الواردة إليها بكل دقة وأمانة.

وأتذكر أيضاً حديثاً دار بيني وبين توم بيكرنغ، المندوب الدائم الأميركي في الأمم المتحدة قبل تحرير الكويت، وذلك في أثناء خدمتي بالبعثة المصرية بنيويورك الذي كان في غاية القلق من أن يقبل صدام أحد الاقتراحات الدولية لحل خلافه مع الكويت، أو أن يكتفي بالسيطرة على 10 كيلومترات من الأراضي الكويتية فقط، باعتبار أن الاحتمالين سيقللان من حدة الخلاف والتجاوز العراقي ويجعل من الصعب حشد التأييد الدولي اللازم لخلق تحالف للتصدي للعراق عسكرياً.

رأيت التذكير بموقفي غلاسبي وبيكرنغ، على رغم حدوثهما ارتباطاً بغزو العراق للكويت خلال إدارة الرئيس بوش الأب الذي رفض غزو العراق، لعل المؤرخين يبحثون في ما إذا كانت لهما علاقة بالقرار الأميركي اللاحق بغزو العراق، إذ لا أستطيع الجزم بصحة ذلك من عدمه، إنما كان الاهتمام بالعراق واضحاً منذ بداية إدارة الرئيس بوش الابن، والملغمة بما يسمى “المحافظين الجدد” والداعين إلى ضرورة استخدام أميركا قوتها كاملة في تحقيق أهدافها.

بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 بأشهر قرر نائب الرئيس تشيني الإعداد للقيام بجولة في الشرق الأوسط، فانتهزتها فرصة لزيارته وعرض عليه المواقف المصرية الثنائية والقضايا الإقليمية مثل تعثر عملية السلام العربية – الإسرائيلية، مبرزاً الوضع الفلسطيني، ففاجأني تشيني بإلحاحه على التشاور حول العراق كأولوية أولى خلال الزيارة، وهو ما نوهت به للقاهرة مع لفت النظر إلى أن هناك شيئاً في الأذهان حول العراق سأسعى إلى استيضاحه ومتابعته.

وتقديري أن المحافظين الجدد كانوا عاقدين العزم على غزو العراق منذ تولي بوش الابن الرئاسة، إنما تختلف التقديرات حول المبررات لهذا الموقف، هل كانت رغبة لبوش الابن في إثبات ذاته باستكمال مشوار أبيه أو تجاوزه، أو أن الابن كان قد استثار من استهزاء صدام بالأب بعد نهاية ولايته، أو أن غزو العراق كان سعياً إلى استعادة هيبة أميركا بعمل عسكري كبير بعد أحداث سبتمبر الإرهابية، وقد تكون كل هذه التفسيرات سليمة، إنما أرجح أن الدافع الرئيس كان توافق بين المحافظين الجدد واليمين الأميركي المؤيد إسرائيلياً بانتهاز هذه الفرصة لإضعاف العالم العربي وتفتيته.

طرحت تساؤلات أميركية كثيرة عن موقف مصر من كل ذلك، على رغم أنه كان واضحاً وقاطعاً ومستقراً، ألا وهو رفض الغزو العراقي للكويت، وضرورة احترام سيادة الدول بعدم غزو العراق، فضلاً عن أننا حذرنا كثيراً وعلى أعلى مستوى من عدم استقرار العراق ومن التداعيات الإقليمية للمساس بالتوازن الإقليمي الدقيق بالمنطقة، بخاصة بين العراق وإيران، ونقلت ذلك للإدارة والكونغرس والرأي العام الأميركي، مما دفع بعض أعضاء الكونغرس إلى التعبير عن عدم رضاهم عن موقف مصر الصديقة، فكان ردي أن الصديق الحقيقي هو من لديه شجاعة المصارحة الكاملة وهو ما نلتزم به دائماً.

لم يختلف أحد في الدول العربية حول أن الرئيس العراقي السابق كان دموياً مع شعبه وعدائياً تجاه جيرانه، حتى ممن قرروا عدم اتخاذ مواقف ضده لحسابات خاصة بهم، إنما اختارت الولايات المتحدة مبررات واهية غير صادقة لتبرير إصرارها على غزو العراق، وأول الأمر حاولت الربط بين أحداث سبتمبر الإرهابية والنظام العراقي، غير أن هذا طرح لم يحظ بأي تأييد حتى داخل الإدارة، أو من حلفائها في حلف الشمال الأطلنطي، عدا بريطانيا، التي كانت شريكاً مباشراً وضالعاً.

ودفعت الولايات المتحدة أن العراق لديه أسلحة نووية وكيماوية وبيولوجية، على رغم أن مفتشي الأمم المتحدة أكدوا عدم صحة ذلك قبل الغزو، وهو ما أكده فشل الولايات المتحدة في العثور على أي من هذه الأسلحة بتاتاً، بل إن مفتشيها أكدوا عدم حيازة العراق على هذه الأسلحة، وهو ما جعلني أستفسر مباشرة من بول ولفوويتز أحد رواد المحافظين الجدد، والرجل الثاني في البنتاغون الأميركي حينذاك، ففاجأني مضمون وبجاحة رده، بأن تعثر التوصل إلى توافق بين المؤسسات الأميركية الأمنية والعسكرية والدبلوماسية على أن هناك أي خطر على الولايات المتحدة أو مصالحها، فتبنت الإدارة هذه الحجة على رغم ضعف الأدلة للقيام بالغزو.

كما صرح جورج تينيت مدير وكالة الاستخبارات الأميركية بتوافر أدلة “قاطعة” بحيازة العراق لهذه الأسلحة، وأعلن وزير الخارجية الأميركي كولن باول في مجلس الأمن أن لديهم خطاباً موقعاً من وزير خارجية النيجر بتصدير اليورانيوم للعراق، وهو ما فنده مدير وكالة الطاقة الذرية محمد البرادعي في الجلسة نفسها، موضحاً أن وزير خارجية النيجر كان قد تغير قبل ذلك بكثير، وقد التقيت باول مرة أخرى بعد أن ترك الإدارة، وعبرت بصراحة عن استغرابي لموقفه، فلم يتردد في الاعتراف بأنه جرى تضليله، وهو نفس ما كرره في مذكراته لاحقاً، بل عبّر فيها عن اعتذاره لمشاركته في كل ذلك.

بعد عقدين من غزو العراق هناك تساؤلات أميركية ودولية عدة عن أسباب وجدوى غزو العراق، وهل حقق ذلك المصلحة الأميركية أو العربية، وأعتقد بأن الغالبية العظمى من المحللين الأميركيين من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار يرون أن غزو العراق كان خطأ كبيراً لأنه أحدث خللاً في توازن القوى بالمنطقة لمصلحة إيران على حساب العرب، وبما يهدد أصدقاء أميركا، بما فيهم إسرائيل، وخلق مناخاً من عدم الاستقرار والأمان والتطرف داخل العراق، أدى إلى ظهور “داعش” وإرهاق المنظومة العراقية الوطنية، ومن هؤلاء اليسار الديمقراطي واليمين الجمهوري مثل دونالد ترمب الذي وصف غزو العراق بأنه أكبر خطأ في تاريخ السياسة الخارجية الأميركية، وصدرت إحصاءات رأي عام أميركية أخيراً تشير إلى أن معظم الأميركيين يرون كذلك أن القرار كان خطأ.

وعلى رغم تكرار تحذير إسرائيل من الأخطار الإيرانية أعتقد بأن الفائز الوحيد والأكبر من غزو العراق هو التحالف السياسي بين المحافظين الجدد في أميركا وإسرائيل لاهتمامهم أساساً بتفتيت العرب وأسس الدولة الوطنية، وسعيهم إلى بث الفتنة والطائفية على حساب الهوية الوطنية.

أما تقييم غزو العراق من الزاوية العربية، فالمسألة أكثر دقة وتعقيداً، فالقضاء على صدام حسين ريّح كثيراً من الدول الخليجية لخشونة ممارساته وخطورة تجاوزاته، إنما تصعيد النفوذ الإيراني كانت له أخطار جمة، وانكسار الثقة بالخيار الأمني العربي والوطني جعل كثيرين يعتمدون أكثر من اللازم على قدرات أجنبية، وإغفال التطوير المنهجي للقدرات الدفاعية الوطنية، مما خلق توازناً أمنياً بالشرق الأوسط في غير مصلحة العرب.

ولعلنا كعرب نخرج من هذه التجربة ببعض الدروس المستفادة، بتكثيف التشاور والاتصالات العربية في الاتفاق أو الاختلاف وضبط الممارسات بين الدول العربية لعدم تأزم المشكلات والخلافات، بخلق وتنشيط آليات إقليمية للطوارئ وحل النزاعات في إطار جامعة الدول العربية، بحيث تتبنى وتمارس الدبلوماسية الاستباقية الوقائية، وعلى العرب تنشيط الدبلوماسية الإقليمية بالتحاور والتشاور الصديق أو الغريم من خارج العائلة العربية.

اندبندت عربي