اقتحمت قوات جيش وأمن الاحتلال الإسرائيلي المصلّى القبلي في المسجد الأقصى وهاجمت مئات الفلسطينيين المعتكفين بأشكال من التنكيل الجماعي استخدمت فيها الهراوات وأعقاب البنادق والقنابل الغازية والصوتية والرصاص المطاطي ثم اقتاد الجنود وعناصر الأمن الإسرائيليون قرابة 500 فلسطيني إلى مركز لحرس الحدود حيث تم اعتقالهم.
يصعب على أي مراقب للمقاطع المصورة التي انتشرت لأفعال التنكيل، بغض النظر عن قوميته أو دينه أو أهوائه السياسية، ألا يستفظع هذه المشاهد التي تنفذها قوة احتلال وحشيّة ضد مصلّين يعتكفون في شهر مقدّس للتعبّد لربهم، وألا يتساءل عن مبرر لهذه الفظاعة والتجرّد عن الإنسانية وامتحان قدرة البشر على التحمل، وقد كان أحد التصريحات الكثيرة جدا التي صدرت عن المنظومة الدولية والعربية، وهو تصريح مبعوث الأمم المتحدة للشرق الأوسط، تور وينسلاند، لافتا في استخدام صورة إنسانية، وليس سياسية فحسب، لما حصل بالقول إنه «مفزوع من الصور التي أظهرت قيام أفراد الشرطة الإسرائيلية بضرب المصلين داخل المسجد».
يأتي التنكيل الإسرائيلي بالمصلّين في ظل «فقرة الهدوء» التي جنح إليها نتنياهو لترتيب أوراقه من جديد قبل استكمال انقلابه القضائي، والتي كان الثمن الأول المدفوع منها لأحزاب اليمين الديني الصهيوني هو تعهد نتنياهو بإنشاء ميليشيا خاصة يديرها بن غفير، إضافة إلى كونه وزيرا للأمن الداخلي، والذي كانت آخر طلباته عقد اجتماع طارئ للكابينت الإسرائيلي، الذي لم يعقد منذ شهرين، لاعتماد حملة اغتيالات ضد قادة المقاومة الفلسطينية، فيما دعا زميله، وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش إلى شن عملية جديدة «السور الواقي 2» في الضفة الغربية تبدأ من نابلس وجنين.
ليست عملية التنكيل الهمجية بالمصلين الفلسطينيين، بهذا المعنى، محاولة للهروب من أزمات نتنياهو الداخلية، كما اقترحت بعض التحليلات.
الحدث، بداية، هو استمرار لسياسة إسرائيلية عامة، فما حدث ليلة أمس حدث مثله يوم 15 نيسان/ابريل من العام الماضي، حيث تعرّض المسجد لهجوم مشابه بهدف تفريغه قبيل حلول عيد الفصح اليهودي، الذي تحوّل إلى أحد أكبر المناسبات المستخدمة لتهويد أولى القبلتين.
الواقعة، أيضا، هي تأكيد على برنامج حكومة نتنياهو، وائتلافه الذي تغلب عليه الأحزاب العنصرية المتطرّفة، والتي تعتنق أفكار التطهير العرقي، والإبادة، وتوسيع جغرافيا الاحتلال والاستيطان، بما في ذلك التلميح للاستيلاء على الأردن، الذي فجّره ظهور سموتريتش خلف منصّة تحمل صورة كامل فلسطين والأردن ضمن الدولة الإسرائيلية، كما تتضمن خططها إزالة معالم «الخط الأخضر» وهو خط وهمي رسمه الاحتلال كفاصل بين أراضي الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1967 عن الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1948، وكذلك بتفكيك السلطة الفلسطينية، باعتبارها أداة تحقيق دولة فلسطينية مستقلة.
الهجوم، من جهة أخرى، هو تصعيد مقصود منه شد العصب الإسرائيلي خلف حكومة نتنياهو، وسحب جمهور المعارضة نحوه باعتبار أن الصراع الأساس هو مع الفلسطينيين، بحيث تتراجع أهمية معركة نتنياهو مع العلمانيين، ومع «المحكمة العليا» فتفجير الأوضاع مع الفلسطينيين هو ورقة سياسية كبرى في معركة نتنياهو ضد خصومه.
الدول العربية ردّت على التصعيد الأخير باجتماع طارئ للجامعة العربية على مستوى المندوبين أدان الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي، كما طالب مجلس الأمن «بتحمّل المسؤوليات القانونية والأخلاقية والإنسانية» وهو أمر مطلوب طبعا، لكن ذلك يوازيه، للأسف، تجاهل بعض الدول العربية لخطط «الحكومة الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل» كما وصفها الإعلام العبري نفسه، عبر الإعلان عن استمرار أشكال التعاون العسكري والأمني والتجاري، وهو ما يثير شكّ الفلسطينيين، وحلفائهم في العالم العربي والعالم، من أن تكون الإدانات والمطالبات لن تؤثر على خطط العنصريين المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية، وأنها ستقرأ متابعات التطبيع كتشجيع لها على مزيد من الإجرام بحق الفلسطينيين.
القدس العربي