عديدة هي التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة للحفاظ على ريادتها للعالم، وتتجلى أساسا في القوة التي تكتسبها الصين، غير أن هناك قضية قد تجعل واشنطن تخسر مستقبلا بشكل كبير أخلاقيا ومعنويا وسياسيا، إذا ما نجحت الدول الكبرى الجديدة مثل الصين والهند وروسيا في فرض حل للقضية الفلسطينية.
في هذا الصدد، تنشغل واشنطن خلال السنة الأخيرة أكثر من أي وقت مضى بالتقدم الكبير للصين على جميع الأصعدة، وتواجه الولايات المتحدة تحديات على رأسها، منافسة بكين للدولار ورغبتها في تهميشه وجعله عملة من الدرجة الثانية أمام اليوان الصيني، وفي أحسن الأحوال جعله خاصا ببعض الدول الغربية، وتكفي رؤية كيف بدأت دول وازنة تبحث عن عملات بديلة للدولار الأمريكي، وتجد تنافسا قويا في مجالات التصنيع العسكري والتجاري وغزو الفضاء وسوق السلاح أساسا، وانضاف مجال آخر ابتداء من مارس/آذار الماضي لم يكن مرتقبا وهو الدور الصيني المفاجئ في المصالحة بين المملكة العربية السعودية وإيران، ثم بدء رهان العالم، بما فيه دول غربية، على لعب بكين دورا في إرساء هدنة بين روسيا وأوكرانيا في الحرب الدائرة بينهما، وفي هذا الإطار، تأتي زيارات رئيس حكومة إسبانيا بيدرو سانشيز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الصين. خلال العقود الماضية، كان دائما يتم توجيه الأنظار لواشنطن لفرض حل، أو الوساطة، كل هذا بدأ ينتهي نسبيا.
تتراجع منطقة الشرق الأوسط في الأجندة الأمريكية بسبب الأولوية التي تعطيها للصين ومنطقة الهادي – الهندي عموما، فهي مركز ثقل العالم الجديد الآخذ في التشكل
ولم تكن واشنطن تنتظر هذا الاختراق الدبلوماسي السريع لبكين، بوساطتها البارزة والناجحة في نزاعات شائكة، خاصة بين عدوين لدودين وهما، العربية السعودية وإيران. ورحب العالم بهذه الوساطة، ويتكهن الكثيرون بدور صيني مستقبلا في إضفاء الهدوء في نزاعات كثيرة، مستفيدة من دبلوماسيتها الهادئة وقوتها التجارية والاقتصادية، علاوة على الصورة التي اكتسبتها بأنها وسيط نزيه لا يميل لأي طرف على حساب طرف آخر، عكس الصورة السلبية للولايات المتحدة في أعين جزء كبير من الرأي العام العالمي وعنوانها «الانحياز». المصالحة بين طهران والرياض كان لها امتداد حول دور صيني صامت في دفع الدول العربية لاستعادة سوريا إلى صف الجامعة العربية، ثم ترتبت عنها هدنة في اليمن قد تنهي الحرب. حدث هذا في وقت كانت واشنطن تعارض فيه عودة سوريا، ولم تبذل مجهودا يذكر في السلام في اليمن، بل انحازت إلى الإمارات والسعودية. والتساؤل، كيف سيكون موقف واشنطن إذا قررت الدول الكبرى الآسيوية، خاصة الثلاثي الصين والهند وروسيا بدعم من باقي الدول إيجاد حل، من دون استبعاد فرضه بطريقة غير مباشرة، في النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي؟ والواقع أن الرأي العام العربي والإسلامي يرى في القضية الفلسطينية أشبه بحرب صليبية من نوع آخر تفرضها الولايات المتحدة والغرب برمته على العالم العربي من خلال إسرائيل. ولا يفهم السياسيون والمثقفون العرب والمسلمون، بمن فيهم الذين يميلون للغرب كيف يتماطل هذا الغرب، خاصة الولايات المتحدة، في إيجاد حل للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، ويصمت منذ عقود أمام ارتكاب إسرائيل جرائم في حق الفلسطينيين، ثم كيف تعارض الولايات المتحدة كل القرارات الأممية التي توصي بفرض إقامة الدولة الفلسطينية وتبرر جرائم إسرائيل. هذه الشريحة من المثقفين والنخبة، وفق مقالات رأي تحليلية، بدأت ترى بعين الارتياح الدور الصيني، لأنه جنّب الأمة الإسلامية مصيرا مجهولا لو كانت الحرب قد اندلعت بين الرياض وطهران، لأن الحرب تعني خلق استقطاب لا سابقة له، ولن يتخلص منه العالم العربي طيلة عقود من الزمن.
وتنطلق الصين من عوامل تساعدها في لعب الوساطة مستقبلا، فهي تعترف بالدولة الفلسطينية، ولا تعتبر حركات المقاومة مثل حماس حركات إرهابية، كما تعترف بإسرائيل كدولة، وأصبحت لها مواقف ثابتة في القضايا الدولية عكس الولايات المتحدة، التي بدأت تغير من مواقفها من رئيس إلى رئيس، كما حدث بين الجمهوري دونالد ترامب والديمقراطي جو بايدن. والواقع، أنه إذا نجحت الدول المذكورة أو على الأقل الثنائي الصين وروسيا في فرض حل في النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، وقتها ستكون الولايات المتحدة قد سقطت معنويا وأخلاقيا وسياسيا في أعين غالبية الرأي العام العربي والإسلامي، بل والدولي. ولا يمكن استبعاد فرضية دور صيني – روسي بدعم من الدول العربية الكبرى، ذلك أن دور بكين المسنود في صمت من روسيا في المصالحة بين السعودية وإيران، وتبدو مصالحة متينة، قد يمتد إلى ملفات الشرق الأوسط. وقد تجد إسرائيل نفسها أمام التغيرات الجيوسياسية الهائلة مجبرة على قبول تصور صيني- روسي للحل في ظل تراجع النفوذ الأمريكي تدريجيا لثلاثة أسباب وهي:
في المقام الأول، الشرق الأوسط بدأ يستعيد تدريجيا جذوره التاريخية، إذ سيكون منطقة تتحكم فيها دول المنطقة والمتاخمة لها من قوى كبرى مثل الصين وروسيا. تبنت تركيا هذا التصور ثم إيران والآن العربية السعودية التي تستعيد المبادرة، وهي دول لها ثقلها الإقليمي وقادرة على فرض أجندة جيوسياسية في الشرق الأوسط.
في المقام الثاني، منطق القوة الذي اعتمدت عليه إسرائيل منذ ظهور كيانها قد انتهى، بسبب القوة التي أصبحت لدول المنطقة، ويكفي أن إسرائيل لا تستطيع حتى الهجوم على حزب الله.
في المقام الثالث، ستكون إسرائيل مجبرة على الاندماج في هذه الدينامية التي تشهدها المنطقة عاجلا أم آجلا، لاسيما وأن اليهود تعايشوا تاريخيا مع ثقافات وديانات الشرق الأوسط، وبدأت الشعوب في الشرق الأوسط تقبل بدولة لليهود إلى جانب دولة للفلسطينيين.
نعم، تتراجع منطقة الشرق الأوسط في الأجندة الأمريكية بسبب الأولوية التي تعطيها للصين ومنطقة الهادي – الهندي عموما، فهي مركز ثقل العالم الجديد الآخذ في التشكل. غير أنه لا يمكن لواشنطن الانسحاب من الشرق الأوسط، من دون إيجاد حل للقضية الفلسطينية أو لعب الدور الرئيسي في هذا الشأن قبل فوات الأوان. لو حدث وانسحبت وتركت النزاع معلقا ومنحت الفرصة للصين لحله، وقتها ستكون قد فقدت قيمتها التاريخية وخطابها الأخلاقي الذي روجت له منذ عقود، وهذا يعني في العمق سقوط الغرب أخلاقيا.
القدس العربي