حسمَ رئيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة يحيى السنوار وجهة الحركة نحو إيران ونظام بشّار الأسد، بالانحياز التام والصريح نحو هذا المسمَّى محور الممانعة والمقاومة، برغم أنه عتَب على من دعَوْا قادة الحركة إلى الانحياز إلى طرف دون الآخر، حين قال، في كلمته في مهرجان “الضفّة درع القدس” الذي أقيم في غزة، إحياء ليوم القدس العالمي “وقع علينا ظلم كبير من الكثيرين من المحبِّين الذين أرادوا منَّا أنْ ننحاز لطرف دون آخر، في ما وقع من نزاعات داخلية؛ الأمر الذي كان سيشغلنا عن مسارنا الاستراتيجي في التحضير لمعركتنا الكبرى، معركة وعد الآخرة”.
وبرغم النبرة التأكيدية الحاسمة التي سادت خطابه، لا نتوقع أن يعكس ذلك توافقًا ورضى تامًّا في صفوف قادة “حماس”، فضلًا عن قواعدها، فلا يزال موقف رئيس المكتب السياسي للحركة في الخارج خالد مشعل مع ثورة الشعب السوري، كما جاء في معرض تأبينه للشيخ يوسف القرضاوي، أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي، حين قال، وهو يعدِّد مناقبَه: “الشيخ القرضاوي الذي وقف مع الحقّ، ومع المقاومة، ومع الشعوب، وسنظل مع الشعوب، في وجه الطغاة، سنظل مع الحرية، سنظل مع وحدة الأمة، وقضاياها الكبرى”. ومعروفٌ موقف القرضاوي من ثورة الشعب السوري، والهجوم الذي تعرّض له من مؤيِّدي بشّار الأسد جرّاء هذا الموقف.
العدالة والأحقيَّة، نظريًّا، والتواطؤ على القهر والإخضاع، هي الجامع بين الشعبين الفلسطيني والسوري
وكذا ما جاء في تغريدة للرئيس الأول للمكتب السياسي للحركة (1992 – 1996)، والرئيس الحالي لمكتب العلاقات الدولية فيها موسى أبو مرزوق، على “تويتر”، في 15 إبريل/ نيسان، بعد خطاب السنوار: “حماس ليست جزءًا من أيِّ محور سياسي، أو عسكري، بغضّ النظر عن الاسم والعنوان. نحن حركة مقاومة إسلامية، ونسعى إلى علاقات مع كلِّ القوى الحيَّة في المنطقة والعالم، وليس لنا عداء مع أيِّ مكون سوى العدو الصهيوني، ونشكر كلَّ مَن يقف معنا مساعدًا ومُعينًا، وليس هناك من علاقة مع أي طرف على حساب طرف آخر”. وجوهر هذا الموقف عدم استعداء أيِّ طرف، بخلاف موقف السنوار الذي يستحيل أنْ لا يستجلب استنكار قوى الشعب السوري التي ثارت في وجه نظام الأسد، ودفعت أثمانًا باهظة من أرواح أبنائها وعوائلها، فضلًا عن العذابات الموثَّقة بالصوت والصورة، والمشهودة من كل متابعي العالم. والفكرة الثانية التي تضمَّنها موقف أبو مرزوق شكر كلّ من أعان حركة حماس، والمقاومة في فلسطين، وهذا العون كان على أشكالٍ، منها الشكل الشعبي بالدعم المالي لغزّة وغيرها، والدعم المعنوي، بالتضامن والنصرة والتأييد لهذه القضية المستقرّة في وجدان الشعوب العربية كلها، من مغربها إلى مشرقها، وصولًا إلى الأمة الإسلامية في البلاد غير العربية.
وهذا الدعم الطبيعي غير المقايَض، ولا المنتظِر أثمانًا سياسيّة، هو الأدوم، والأهم؛ لأنه قائمٌ على إيمان هذه الشعوب بأحقّية قضية فلسطين، وعدالتها، ونصرة لهذا الشعب الفلسطيني الصابر والمخذول رسميًّا/ عربيًّا، ودوليًّا. هذه النواة، العدالة والأحقيَّة، نظريًّا، والتواطؤ على القهر والإخضاع، هي الجامع بين الشعبين الفلسطيني والسوري، فضلًا عن تشابُه التداعيات الماثلة: القتل، والتهجير، وهدم البيوت، وانتهاك الحرمات، ثم التطبيع مع كل ذلك، وسط انتهازية سياسية، طمعًا بمكاسب، مصلحية، ضيِّقة، من الطرف غير المرتدع عن إجرامه، ولا المعتذر حتى عنه!
لا نلحظ فكرة المقاومة والعمل ضد وجود دولة الاحتلال متحققةً في إيران ونظام الأسد، بالمبدئية والصفاء والأولوية التي تُصوَّر فيها، فحروبهما (وحزب الله والحوثيين) الفعلية ليست موجَّهة، بالانخراط الفعلي، ضد دولة الاحتلال، بمقدار انهماكها في ساحات داخلية، في سورية، والعراق، واليمن ولبنان، حتى وهذه الأطراف تتلقَّى الضربات الموجعة والمحرجة، تلو الضربات، من جيش الاحتلال، وفي قلب دمشق، وحتى العراق. ومع ذلك، لا تردّ إلا بردود فعل أقرب إلى الرمزية، مع تجنُّبٍ واضح لتوسيع نطاق المواجهة. لا بل سمح حزب الله بتمرير اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، وهي تعني اعترافًا ضمنيًّا لا جدال فيه بإسرائيل. وهو الأمر الذي لم ترفضه، أو تعرقله طهران، بالطبع.
الموقف المتقدّم في تمجيد الأسد، لا بد يلحق أضراراً يعلمها قادة “حماس” بالحركة، ويربك اتِّساقَها الفكري والوجداني
أما المبدئية الغائبة عن الصراع مع دولة الاحتلال، فتشي بها علاقات إيران ونظام الأسد، الحيّة والحيوية مع دول عربية بالغت في العلاقة مع دولة الاحتلال، كما هو شأن دولة الإمارات. ولم يكن الاستقبال اللافت لبشّار، الشهر الماضي (مارس/ آذار)، في أبوظبي عاديًّا، بل هدَف إلى إخراجه من عزلته، والتطبيع معه عربيًّا، وقد حظي الأسد باستقبال رئيس الدولة محمد بن زايد، وترافق دخول موكب الأخير إلى القصر مع إطلاق 21 طلقة مدفعية تحيةً له. كما رافقت طائرة الأسد مقاتلاتٌ إماراتية، لدى دخولها الأجواء الإماراتية. ولا يُستبعد أن يكون وراء هذه التقرُّب الإماراتي من الأسد مطامع، لا بدَّ يعلمُها، تصبو إلى ضمِّه إلى اتفاقات أبراهام التطبيعية.
ويبقى السؤال: هل موقف السنوار المتماهي، والداعم لمحور إيران والأسد، بعيدٌ عن كونه الثمن السياسي المستحقّ؟ مع أن إيران لطالما كرَّرت، على لسان مسؤوليها، أنَّ دعمها “حماس” وحركات المقاومة غير مشروط بثمن ما، إلا أن ذلك الادّعاء، وخصوصًا حاليا، يصعب تصديقه. والسبب أن هذا المديح العالي لإيران، والتذكير بفضلها، في ما وصلت إليه المقاومة في غزّة، ثم دعوته الملحّة إلى عودة سوريّة الأسد إلى جامعة الدول العربية، وتجاوز ما دمّرته الحرب، هذا الموقف المتقدّم في تمجيد الأسد، لا بد يلحق أضرارا يعلمها قادة “حماس” بالحركة، وهو بالتأكيد يربك اتِّساقَها، الفكري والوجداني، وهو يحسم من رصيدها وتقديرها، ليس في صفوف أبناء الشعب السوري، ولكن في قاعدتها الإسلامية الواسعة، إذ لم تتخلَّ عن هذه الصفة.
وكان بإمكان العمل المقاوم والدعم الإيراني أن يستمر كما كان منذ غادرت قيادة “حماس” دمشق، لو كان هذا الدعم مترفِّعًا عن الأثمان السياسية، من دون حمل هذه الحركة المجاهدة التي لا يقلُّ احتياج إيران لها عن احتياج “حماس” إليها، من دون حمْلِ الأخيرة على هذا الانعطاف الخطِر.
العربي الجديد