أثبت الناخبون العراقيون إصرارهم على ضرورة التغيير بطريقة حضارية وديمقراطية عبر انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2021 أملاً بتمثيل شعبي وطني جاد تحت قبة البرلمان، وأجمع ثوار تشرين على هدف واحد هو العمل المشترك الذي يعبر عن كل أطياف الشعب العراقي من دون تمييز بحكم الدين أو القومية أو الطوائف. وبعد الفوز بالمقاعد البرلمانية رفع الفائزون شعار “الواحد يمثل الكل” من دون حاجة إلى ممثل يترأس الكتلة.
استقلال من الأحزاب
عن إيجابيات انتخابات 2021 صرح رئيس مجلس المفوضية السابق مصطفى رشيد بالقول “كان من أهمها صعود عدد لا بأس به من النواب المستقلين وبعض الأحزاب الفتية إلى البرلمان، وذلك يعود لأمرين، أولهما تدني شعبية الأحزاب الحاكمة الفاسدة بامتياز وبخاصة بعد التصدي المؤلم لشباب الانتفاضة في 2019، والأمر الثاني تشتت مرشحي الأحزاب الكبيرة وأصواتهم وبخاصة في محافظات بغداد والفرات الأوسط والجنوب”.
وحول أداء النواب المستقلين يقول “كثير منهم يعدون طاقات شبابية، لكن أداءهم لم يكن موفقاً لأسباب أذكر منها أولاً أن صفة الاستقلال تعني الاستقلال من الأحزاب الكبيرة لا الاستقلال السياسي، فمجرد دخول الانتخابات واتخاذ مواقف مؤيدة أو رافضة لبعض القوانين إنما هو موقف سياسي، بالتالي كان لا بد من أن يؤدي ذلك إلى تكتلهم في كتلتين مثلاً أو أقل أو أكثر، وكان بإمكانهم تنظيم أمورهم والتصدي لمحاولات فرض الأغلبية لقراراتها داخل المجلس بطرق مختلفة، لكن الأمور سارت إلى مزيد من تسيد الأحزاب الحاكمة في العراق”.
السبب الآخر، وفق رشيد، يكمن في أن كثيراً من المستقلين يؤيدون بعض الأحزاب الكبيرة، وقد انشطروا بعد فوزهم إلى قسمين، وأعلن قسم منهم صراحة انضمامهم إلى كتل الأحزاب الكبيرة، فيما فضل القسم الآخر البقاء مستقلاً لكنهم كانوا يدورون في فلك تلك الأحزاب. وقسم ثالث مهم جداً من الأحزاب الفتية وبخاصة حركة (إرادة) و(قوى التغيير) و(الجيل الجديد) لم يكونوا موفقين في إدارة المفاوضات كما حصل في التصويت على بعض القوانين، حين تواصلت مجموعة من المنظمات منذ بضعة أشهر مع بعض هذه الحركات كـ(إرادة) و(قوى التغيير) وغيرهما في محاولة لتبني بعض التوصيات بقانون الانتخابات ومنها شرط العمر لدخول البرلمان، الذي كان 28 سنة لكنه أصبح 30 في حين كان المقترح أن يكون 25″.
وذكر رشيد أنه “كان بإمكان المستقلين والمعارضين لقانون (سانت ليغو) عدم تمرير القانون والتفاوض مع الأحزاب المسيطرة في مجلس النواب للوصول إلى حلول وسط، فالدبلوماسية السياسية لا تعني الرفض المطلق بل التعامل مع الأحزاب الحاكمة وإدارة المفاوضات، لأن القانون الحالي للانتخابات شرع بهذه الصياغة ليبعد المستقلين من مقاعد مجلس النواب، وبحسب اعتقادي فإن صياغة هذا القانون على ما هو عليه تصب في مصلحة الأحزاب الكبيرة فقط”.
العمل البرلماني جمعي
على خلفية الموضوع أفادت النائبة السابقة، رئيسة منظمة المرأة والمستقبل، ندى الجبوري أن “النظام الانتخابي وقانون الانتخابات عام 2021 أفرز شخصيات تحت مسمى (مستقلة)، والعملية الديمقراطية للانتخابات تأتي من الأحزاب الرصينة بغض النظر عن طبيعة تكوين هذه الأحزاب، بالتالي فالعمل البرلماني هو عمل جمعي، ومن المستحيل تمرير القوانين أو المدافعة والمناصرة لتعديل قوانين أو أعمال رقابية أو رسم سياسات اقتصادية بطرق منفردة”.
وعن نجاح التجربة من عدمها، قالت “يبدو أن التجربة البرلمانية العراقية لم تنجح تحت مسمى المستقلين إذا لم ينضووا داخل أحزاب”، داعية إلى مراجعة قانون الأحزاب والتركيز على عملها، مع مراعاة مشاركة النساء بنسبة النصف، وأن تكون مشاركة المرأة والشباب في الأمانة العامة للأحزاب.
مستقلون فقط بالاسم
من جانب آخر، بين الناشط السياسي جاسم الحلفي أن هناك إشكالية في تسمية المستقلين، فكما هو معروف فإنهم ترشحوا كمستقلين لكن بدعم من الكتل المتنفذة، وفي لحظات الحسم اصطفوا وصوتوا لمن دعمهم من هذه الكتل، فهم مستقلون بالاسم لكنهم ضمن كتل سياسية كبيرة داخل البرلمان.
واستدرك الحلفي “فقط موقفهم من رفض قانون (سانت ليغو) كان اتفاقاً موحداً، لكن ليس بقصد التضامن مع المستقلين الحقيقيين، بل لأن هذا القانون لا يؤمن لهم الفوز بيسر، وقد لعب النواب المستقلون الحقيقيون دوراً إيجابياً كل بحسب إمكاناته وتأثيره، لكن كان بإمكانهم أن يلعبوا دوراً أكبر لو توحدت الأصوات لأنهم يمتلكون برنامجاً واضحاً بعيداً من المحاصصة، وأغلبهم يشارك لأول مرة في البرلمان، لكنهم للأسف لم يتحدوا تحت مظلة واحدة”.
ووصف رئيس النقابة الوطنية للصحافيين ياسر سالم النواب المستقلين بأنهم “لا يمثلون اتجاهاً واحداً، ولا يمكن اعتبارهم كتلة واحدة، فهناك نواب يصفون أنفسهم بأنهم مستقلون لكنهم تابعون لقوى السلطة، وآخرون انخرطوا في مشاريع كتل السلطة طلباً للحماية والنفوذ، كما أن التقييم للنواب كمجموعة واحدة لا يصح، فعدد المستقلين كما يمكن أن نسميهم لا يتجاوز 10 نواب، وهم من يمكن أن نسميهم نواب المعارضة، وهؤلاء يشكلون أقلية داخل المجلس، لكن صوتهم يبقى مهماً، حتى وإن لم يكن حاسماً”.
أما عن تأثير النواب المستقلين في الشارع العراقي، فيعتقد سالم أنه “انحسر بعد أن كان بعضهم فاعلاً في ساحات الاحتجاج. وفي الوقت الراهن فإن جبهة الاحتجاج ونشطاء تشرين يترقبون إعلان تحالف واسع معارض للسلطة من الأحزاب والشخصيات التي تملك مشروعاً حقيقياً، وهو ما يجب أن يتحقق من دون ضم أي من قوى السلطة أو من يعدون ظلاً لها”.
بعضهم ليس مستقلاً
يرى السياسي بشير الحجيمي أن “النواب المستقلين لا يشكلون كتلة متجانسة، بل إن بعضهم ليس مستقلاً حقاً عن الكتل في الأحزاب المتنفذة، أما النواب الخارجون من رحم تشرين وحركة الاحتجاج والملتزمون أهدافها فلم يفلحوا في توحيد جهودهم داخل كتلة واحدة، ولم يقدموا حتى مستوى متقدماً من التنسيق في مواقفهم، إلى جانب ذلك ضيقت الأحزاب النافذة في السلطة والتي تمتلك الأغلبية في مجلس النواب عليهم فعلاً، وعمدوا إلى اجتذاب نسبة غير قليلة من المستقلين للدوران في فلكهم بوسائل شتى”.
نتيجة لهذه العوامل مجتمعة، وفضلاً عن قلة عددهم نسبة إلى نواب تحالف القوى الداعمة للحكومة ولنهج المحاصصة، وبسبب عدم وجود رؤية متكاملة ومشتركة لهم، فإن تأثير النواب المستقلين ظل محدوداً على رغم أن عدداً منهم بذل جهوداً مثابرة واتخذ مواقف واضحة وجريئة من منطلقات الإصلاح والتغيير ومواجهة قوى المحاصصة والفساد، بحسب الحجيمي.
وخلص الناشط السياسي إلى أن “مواقف ومنجزات المستقلين كانت أدنى بكثير من الآمال التي عقدت عليهم، مع الأخذ في الاعتبار أن التوقعات والآمال كان مبالغاً بها وتتطلب إجراءات تنفيذية وليست تشريعية”.
يؤكد سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي رائد فهمي أن “أداء المستقلين لم يكن ذا تأثير فعال ولم يقدم نتيجة ملموسة، وهناك سببان لتشظيهم، الأول أنهم فازوا بمقاعد في البرلمان من دون أن يجمعهم برنامج سواء قبل الفوز أو بعده، الأمر الذي جعلهم يرتمون في أحضان الأحزاب تارة، وينفرون منها تارة أخرى. أما السبب الآخر فهو عدم نزاهة بعضهم أمام إغراءات الأموال والمناصب”.
وأضاف أن “الشارع العراقي أصيب بخيبة أمل بعد أن خذلته حركة (امتداد) وباعت تضحياته من خلال التصويت ابتداء للحلبوسي، الذي كان مطلب تغييره من ثوابت حركة تشرين، لذلك فهم الآن في مأزق، والشارع العراقي لا يثق بهم كما هي الحال مع الكتل السابقة”.
السطوة والمكانة السياسية
عن تقييمه أداء الكتلة المستقلة في البرلمان، تحدث صلاح بوشي رئيس مركز العراق للشؤون الاستراتيجية قائلاً “النائب المستقل فرصة ثمينة لن تتكرر لكنها لم تستثمر بشكل صحيح، فمن النواب المستقلين من لا يعي الدور الحقيقي في مجال الاستقلالية، والآخر لا يستطيع المقاومة أمام هالة الأحزاب والكتل والمغريات وغيرها من الأمور”.
وختم قائلاً “نستطيع القول إن النواب المستقلين لديهم مكانة نيابية داخل السلطة التشريعية، لكنهم لا يمتلكون السطوة والمكانة السياسية، وهي أصلاً ممنوعة عليهم وفق الرؤى والحضور السياسي للجهات المتنفذة وأصحاب الأمر السياسي، ويصعب إثبات الوجود للاستقلالية وخصوصاً مع إقامة تشريع انتخابي أصبح حاجزاً أمام هذه الاستقلالية وأمام المشاركة العامة”.
الأستاذ في القانون السياسي بجامعة النهرين سلمان الأعرجي يؤكد أن “التعديلات على قانون الانتخابات في هذا الموسم توالت وكانت تسبق كل انتخابات كما حصل في 2010، إذ كان نظام التمثيل النسبي حاضراً مع الدوائر المتعددة، ويعتبر هذا التعديل كل محافظة من محافظات العراق دائرة انتخابية واحدة، واستمرت تعديلات النظام الانتخابي لا سيما في ما يخص قيمة المقعد، والتي ارتكزت على قاعدة (سانت ليغو) التي تراوحت بين 103 و109، وعلى رغم كل هذه التعديلات الأخيرة كانت هنالك تعديلات أخرى نتيجة لتظاهرات 2019، وقسمت البلاد إلى دوائر متعددة صغيرة”.
ويضيف الأعرجي “واجه عمل النواب المستقلين تحت قبة البرلمان كثيراً من الصعوبات بسبب طغيان الكتل الكبيرة وسيطرتها على عمل البرلمان بجميع اختصاصاته، سواء التشريعية أو المالية وحتى الرقابية، ورافق ذلك محاولة جزء كبير منهم الاندماج مع الكتل الكبيرة والمؤثرة لإيصال صوته أو من أجل تحقيق مكاسب شخصية”.
ويتابع “يحتاج العمل البرلماني في العراق إلى مؤهلات وقدرات خاصة يجب أن يتمتع بها النائب المستقل ليتمكن من خلق رأي عام داعم لتوجهاته، وأن يكون فاعلاً داخل قبة البرلمان من خلال العمل في اللجان البرلمانية أو تشريع القوانين وحتى في مراقبة عمل الحكومة”.
ملامح المستقبل
يلاحظ الأعرجي أن “تأثير النواب المستقلين في العراق محدود أو يكاد يكون معدوماً بسبب ديكتاتورية الكتل الكبرى المهيمنة على مجريات العمل البرلماني، مما أدى بدوره إلى أن يفقد النائب المستقل تأثيره وبريقه ليس داخل البرلمان فحسب بل وعلى مستوى الرأي العام وهيئة الناخبين التي أدركت حجم النائب المستقل وقدراته المتواضعة في التأثير تحت قبة البرلمان. ونتيجة لذلك وتأسيساً على التعديلات التي صوت عليها البرلمان والخاصة بقانون الانتخابات الأخير فإن الانتخابات المقبلة لن يكون فيها أي أثر لوجود نواب مستقلين”.
عن أهم التحديات والمنجزات التي حققها المستقلون بعد الدخول إلى البرلمان، تحدث النائب المستقل بلجنة الأمن والدفاع علي حسن الساعدي قائلاً إن “التحديات التي واجهناها ونواجهها كبيرة، بخاصة أننا نخوض العمل النيابي لأول مرة في جو سياسي مضطرب ومشحون للغاية، والضغوط علينا كبيرة بالترغيب أحياناً وبالترهيب أخرى لإجبارنا على الميل نحو جهات سياسية معينة ولنزع صبغة الاستقلالية في قرارنا، ومع هذه الضغوط نجحنا في تفاديها وصدها وحققنا عديداً من المنجزات”.
وتابع الساعدي “يراقب أعضاء البرلمان العراقي في دورته الخامسة، وبخاصة المستقلون منهم، عمل الدوائر التنفيذية ويقدمون الشكاوى إلى المحاكم والادعاء العام، ويتوجهون إلى المحكمة الاتحادية العليا للطعن في القرارات والقوانين، وهذه أفعال لم تكن موجودة في الدورات السابقة، وكان المجلس يشهد حالاً من الخمول”.
كما حقق المستقلون، وفق الساعدي، عديداً من متطلبات جمهورهم من جهة تثبيت العقود والمحاضرين وصناعة جبهة معارضة تحت قبة البرلمان قادرة على عرقلة تمرير القوانين، وهذا ما يزعج الزعماء السياسيين ويهدد مصالحهم، مؤكداً “المستقبل هو للشباب وأصحاب الفكر المتجدد الهادف إلى بناء جيل جديد قادر على إزاحة السياسيين السابقين”.
اندبندت عربي