تمثّل أغلب ردود الفعل على دعوة وزير المال الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، الذي يشغل أيضًا منصب وزيرٍ ثانٍ في وزارة الدفاع، لمحو بلدة حوارة الفلسطينية، عبر تشديده على أن من واجب دولة الاحتلال أن تتبنى بنفسها ارتكاب جرائم الحرب واضعةً حدًّا لـ “خصخصتها”، في تأكيد أنها لم تكن عبارة عن زلّة لسان، مثلما حاول هو الإيهام، بل هي نتاج تفكير مترسخ داخله.
أبلغ دليل على ذلك؛ مثلما سبق لنا أن أشرنا في مقامٍ آخر، أن سموتريتش طرح قبل نحو ستة أعوام ما سماها “خطة الحسم”، التي تبناها حزبه اليميني المتطرّف في ختام مؤتمره السنوي في سبتمبر/أيلول 2017 (حزب “الاتحاد القومي”، سلف حزب الصهيونية الدينية الحالي).
تنصّ الخطة على فرض السيادة الإسرائيلية على أراضي الضفة الغربية المحتلة، وتكثيف الاستيطان اليهودي فيها، وحلّ السلطة الفلسطينية، وتشجيع الفلسطينيين على الهجرة إلى الخارج. بموجبها ينبغي العودة، في كل ما يخصّ البدائل التي تعرضها دولة الاحتلال على السكان الفلسطينيين الأصليين، إلى فحوى إنذار يشوع بن نون لسكان مدينة أريحا، عشية اقتحامها قبل أكثر من ألفي عام، وجاء فيه: “إن المستعد للتسليم بوجودنا هنا فليُسلّم، ومن يريد المغادرة فليُغادر، ومن يختار القتال عليه انتظار الحرب”. الغاية الأهم من هذا كله؛ تتمثّل في القضاء كليًا على فكرة قيام دولة فلسطينية، ففي رأي سموتريتش: “ليس اليأس هو الذي يولد الإرهاب (ضد دولة الاحتلال)، بل الأمل بقيام دولة فلسطينية، وهذا الأمل هو ما أنوي اقتلاعه”!
في رأي الكاتب؛ هذه ذروة التيار الصهيوني المتوحش، لذا قد لا نشهد ذُرًى أخرى
للتذكير؛ كتب سموتريتش في مقدمة خطته: “نموذج الدولتين أوصل إسرائيل إلى طريق مسدود، وقوده اليأس من إمكان إنهاء الصراع والتوجّه نحو “إدارته”، كما لو أنه قدرٌ قاسٍ وأبدي لا رادّ له. البديل يبقى مرهونًا باستعداد المجتمع الإسرائيلي للوصول إلى حسمٍ بدلًا من إدارة الصراع، حسم جوهره أنه لا مكان في أرض إسرائيل لحركتين قوميتين تناقضان بعضهما بعضًا”.
وكتب في إجمالها: “خطة الحسم هي الخطة الوحيدة التي تستند إلى رؤيا أرض إسرائيل الكاملة. إنها الخطة الوحيدة التي لم تيأس مما كان؛ حتى وقت قريب، بمنزلة حلم اليمين الإسرائيلي كله، ولا تشتمل على أي كيان قومي عربي في أرض إسرائيل. إنها الخطة الوحيدة التي لا تستند إلى إبقاء جماعة عربية ذات مطامح قومية، لذا هي الخطة الوحيدة التي تستند إلى حسم الصراع بدلًا من الحفاظ عليه في مستويات قوة متغيّرة. وبالأساس هي الخطة الوحيدة التي تؤمن بإمكان تحقيق حلم السلام والتعايش، ولا تستند إلى يأس من هذا الحلم وإلى استبداله بانفصال مستحيل”.
يعرض سموتريتش نفسه، كما يتبين مما اقتبسناه عنه أعلاه؛ وفي كثير غيره، بصفته الصوت الأبرز في اليمين الإسرائيلي الحاكم ضد الحقوق الفلسطينية كافة. فهو ينفي وجود حركة وطنية فلسطينية أصيلة، زاعمًا أن كل ما تفعله ينحصر في “معارضة الصهيونية ووجود دولة إسرائيل”. ولذا على إسرائيل مواصلة سياستها المستندة إلى الردع والقبضة الحديدية، مثل مواصلة هدم البيوت، والطرد، وتعزيز الاستيطان والمستوطنات… إلخ.
مدرسة حيفا التابعة “للأونروا” في لبنان (أنور عمرو/فرنس برس)
ملحق فلسطين
تحليل قانوني: نشأة “الأونروا” وأهميتها في حفظ الحقوق الفلسطينية
بعد هبّة الكرامة في مايو/أيار 2021، كرّر سموتريتش أن المواجهة ليست بين طرفين متساويين، يهود وعرب، إنما مواجهة مع إرهابيين، ورأى في ما حدث “انتفاضة قوموية للعرب في إسرائيل، الذين يتعاونون كطابور خامس مع أعدائها في حركة حماس”.
هذا التوجّه السياسي الذي يلغي الفلسطيني قبل إلغاء حقوقهم، مرتبط برؤية عقائدية دينية، إذ يدعو إلى تعزيز الاستناد إلى الشريعة والأحكام التوراتية. مثلًا قال سموتريتش في العام 2019 إن “قوانين التوراة أفضل بكثير من الدولة التي أرساها أهارون باراك”؛ في إشارة إلى رئيس المحكمة الإسرائيلية العليا السابق، وما يعرف بـ “الثورة القضائية” التي قادها. يأمل سموتريتش في أن يختار شعب إسرائيل إدارة الدولة وفقًا لقوانين وأحكام التوراة “مثلما كان في أيام الملكين داود وسليمان” على حدّ تعبيره.
فور تولي سموتريتش منصب الوزير الثاني في وزارة الدفاع الإسرائيلية، الذي سيكون مسؤولًا عن الاستيطان في الأراضي المحتلة منذ 1967، بالإضافة إلى منصب وزير المال، حذّر محللون إسرائيليون؛ منهم مسؤولون سابقون في المؤسسة الأمنية، من أنه سيدفع قدمًا نحو تمهيد الأرض لتطبيق خطته هذه، التي هجس بها لاعتقاده بأن الفرصة سانحة لذلك، في ظل الحكومة الحالية التي هي “حكومة يمينية كاملة”.
بحسب هذه التحليلات، إلى جانب الأهداف المعلنة للانقلاب القضائي؛ التي تسعى الحكومة إلى تشريعه، ثمة هدف فحواه وضع أساس قانوني يسمح بضم جارف لكل المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، دون إعطاء مواطنة للفلسطينيين سكان الضفة الغربية، والمخطط التفصيلي لهذه العملية موجود في “خطة الحسم”.
تنصّ الخطة على فرض السيادة الإسرائيلية على أراضي الضفة الغربية المحتلة، وتكثيف الاستيطان اليهودي فيها، وحلّ السلطة الفلسطينية، وتشجيع الفلسطينيين على الهجرة إلى الخارج
بغية فهم ما يجري اليوم ينبغي قراءة القسم الأول من خطة سموتريتش “حسم المستوطنات”، في هذه المرحلة، ينوي سموتريتش؛ حرفيًا، إغراق أراضي الضفة الغربية بالمستوطنات والمستوطنين اليهود، عندما يحدث ذلك، سيفهم الفلسطينيون أنهم لن يحصلوا على دولتهم، وسيضطرون إلى الاختيار بين ثلاثة خيارات: حياة قمعية تحت سلطة إسرائيل، أو الهجرة، أو الموت شهداء.
هذا سبب طلب سموتريتش؛ وحصل عليه في المفاوضات الائتلافية، الإشراف على المستوطنات وعلى حياة السكان فيها (المستوطنون) في وزارة الدفاع، وهذا سبب الصراع العنيد الذي يخوضه ضد وزير الدفاع ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، في كل مرة يجري إخلاء بؤرة استيطانية يهودية غير قانونية، أو لا يجري إجلاء البدو الفلسطينيين من الخان الأحمر. كما يهدف الانقلاب القضائي؛ في قراءته، إلى إزاحة المحكمة العليا، التي يمكن أن تشكل عقبة في طريق خطته.
داخل هذه التحليلات كان لافتًا مقال مسؤول كبير سابق في جهاز الأمن الإسرائيلي العام “الشاباك”؛ هو ليئور أكرمان، نشره في صحيفة معاريف، حين أنعش الأذهان بذكره سؤاله لسموتريتش لدى إشهاره “خطة الحسم”، والخيارات الثلاثة التي ينبغي عرضها على الفلسطينيين (مغادرة فلسطين، أو العيش فيها بوضعية مقيم، لأنهم أقل شأنًا وفق الشريعة اليهودية، وإذا رفضوا الخيارين فسيعرف الجيش ما الذي يجب فعله) عما إذا كان ينوي قتل عائلات ونساء وأطفال، أجاب “في الحرب، كما في الحرب”.
وزير المالية الإسرائيلي تسلال سموتريتش (فرانس برس)
تقارير عربية
إدانات لتصريحات سموتريتش عن “عدم وجود شعب فلسطيني”
هذا يعني؛ في قراءة أكرمان، أن وزير المال، وكبير أعضاء مجلس الوزراء، والمسؤول عن الخزانة العامة والعلاقات الاقتصادية للدولة مع العالم، متعصب مسياني يعمل انطلاقًا من رؤية أيديولوجية محدّدة لتفكيك إسرائيل بشكلها الحالي، وحلّ السلطة الفلسطينية، وربما الأردن والعراق، والتأسيس لـ “مملكة يهودا” بحسب الشريعة اليهودية، وفقًا لشروط وحدود مفصلة في التناخ، دون فصل بين السلطات، ومن غير نظام قضائي مستقل ومفاهيم الحرية والتعددية وحقوق الإنسان.
أمّا نيّة سموتريتش تولي الإدارة المدنية في الضفة الغربية، فنابعة من رغبته بجعل الأنظمة العسكرية مدنيّة، وتحقيق الإلغاء الكامل للسلطة الفلسطينية، وإنشاء مستوطنات جديدة، وتجنب منح الفلسطينيين تصاريح بناء، كي يفهموا أنه لن تكون لهم دولة، بل لن يكون شعب فلسطيني أصلًا. ومطالبته بأن يتبع حاخام الجيش العسكري للحاخامين بدلًا من رئيس هيئة الأركان العامة، تهدف إلى إفقاد الجيش ما يوصف بأنه “قيمة القيادة الموحدة”، التي يقوم عليها، ما يساهم مساهمةً كبيرةً في تفكيك النسيج الاجتماعي الهشّ أصلًا في إسرائيل.
سيكون سموتريتش مسؤولًا مباشرةً عن الاستيطان في أراضي 1967، وإيتمار بن غفير سيكون مسؤولًا مباشرًا عن الأمن، بما يوفره ذلك من غطاء سياسي وأمني للمستوطنين وعصاباتهم الإرهابية. يمكن أن نضيف إلى ذلك قرارات الحكومة ذاتها بشأن شرعنة بؤر استيطانية عشوائية، وإقرار خطط بناء وحدات سكنية جديدة في المستوطنات، وسن قانون إلغاء بنود في قانون فك الارتباط من عام 2005، الذي يتيح العودة إلى مستوطنات أخلتها إسرائيل في إطار خطة فك الارتباط في شمال الضفة الغربية.
لا شك في أن تداعيات الحالة السياسية الإسرائيلية الراهنة على الفلسطينيين خطيرةٌ جدًا، في حال المضي قدمًا في تطبيق خطط سموتريتش وبن غفير وأمثالهما، سيما في ما يتعلق بتوسيع الاستيطان وسرقة المزيد من الأرض الفلسطينية، واتخاذ الإجراءات التي تمهد الضم، ناهيك عن إطلاق العنان لإرهاب المستوطنين، كما في حوارة. ولكن كل ذلك سيؤدي إلى نتائج قد تعود وبالًا على الاحتلال وإسرائيل، إذا ما نجح الفلسطينيون في التأثير على الساحتين الإقليمية والدولية، خصوصًا أن هاتين الساحتين جاهزتان لأخذ دور أكبر في الضغط على إسرائيل؛ وفق تقديرات الكاتب. إجمالًا؛ كرة كبح تصاعد الخطر الإسرائيلي موجودة في الملعب الفلسطيني، ولذا نحن مدعوون لتوجيهها في الاتجاه الصحيح.
ينوي سموتريتش؛ حرفيًا، إغراق أراضي الضفة الغربية بالمستوطنات والمستوطنين اليهود، عندما يحدث ذلك، سيفهم الفلسطينيون أنهم لن يحصلوا على دولتهم
في رأي الكاتب؛ هذه ذروة التيار الصهيوني المتوحش، لذا قد لا نشهد ذُرًى أخرى، واستنادًا إلى ردة الفعل الإسرائيلية الصارمة، وغير المسبوقة على ممارسات هذا التيار، بما يتعلق بسياسته الداخلية، ما قد ينعكس أيضًا على السياسة الخارجية، فهي؛ ردة الفعل، تنذر بأن تؤول ممارسات التيار إلى مضاعفات خطرة على دولة الاحتلال ونسيجها الاجتماعي. فضلًا عن ردود أفعال الخارج، وما لها من تأثير لا يجوز التقليل من أهميتها وجدواها.
ما زالت الأمور متدحرجةً، مما يصعب التنبؤ بإحالاتها ومآلاتها، لكن يمكن التقدير بأن ما حدث يحمل إشاراتٍ قويةٍ إلى قرب نهاية هذا التيار المستوحش سياسيًا، رُبّما أكثر مما يعززه، مع تسجيل استدراك فحواه أن تلك الإشارات لا تعني نهاية هذا التيار، بقدر ما تعني وجود احتمالٍ قويٍ لكبح مقاربته السياسية.