أمام ما يبدو أنه تعثر على خط المفاوضات النوويةبين إيران والولايات المتحدة الأميركية، يمكن القول إن القيادة الإيرانية بدأت مساراً التفافياً أو عكسياً يهدف إلى إنهاء ملفاتها الخلافية ونزاعاتها وتصفير المشكلات والأزمات مع ما أوجدته على مدى عقود من بؤر توتر وصراع مع جوارها الجغرافي ومحيطها الجيوسياسي. وهنا يمكن اعتبار الاتفاق الثلاثي الذي وقعته مع السعودية برعاية صينية المؤشر الأبرز إلى هذا التوجه الإيراني الجديد والذي سبق أن أرسلت طهران إشارات واضحة إلى رغبتها في التعاون حيال بعض الملفات الإقليمية، على غرار التفاهم الذي حصل مع الإدارة الأميركية على تمرير تشكيل الحكومة العراقية قبل نحو أربعة أشهر والذي ترافق أو تزامن مع حدث مفصلي وذي دلالات إستراتيجية من خلال التعاون في إيصال مباحثات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل إلى النتائج المطلوبة.
وهذه الرغبة أو التوجه الإيراني الجديد أخذ شكلاً متسارعاً، يكشف عن وجود حال من نفاد القدرة على الاستمرار في دفع الأثمان جراء سياسات تصعيدية وعدائية لم يكن لها مردود سوى مزيد من العزلة وتفاقم الأزمات الاقتصادية وتنامي العقوبات ضدها التي تنعكس على استقرار الوضع الداخلي الذي يعاني أزمات متراكمة ومنهكة استنفدت القدرة على التحمل والاستمرار في معاناة يومية ذات طابع معيشي، وتوسعت نتيجة توتر النظام والسلطة إلى أزمات سياسية مارست فيها الأجهزة أعلى مستويات القمع والتضييق مدفوعة بالخوف من أن يؤدي التساهل إلى تهديد النظام واستقراره، لذلك التقطت طهران المؤشرات الإيجابية الأولى للاتفاق مع الرياض واندفعت في محاولة تطبيع علاقاتها مع كل من البحرين والإمارات، وإرسال مؤشرات إلى استعدادها للانفتاح وكسر الحواجز التاريخية ذات الطابع الأيديولوجي والعقائدي والانتقال إلى فتح صفحة جديدة مع مصر بعد قطيعة استمرت أربعة عقود بسبب اتفاق “كامب ديفيد”.
وإذا ما كان الرهان الإيراني على استخدام سياساته الإقليمية الجديدة على طاولة التفاوض النووي مع واشنطن، فإنه من غير المنطق أن تعتقد القيادة الإيرانية بأن الموضوع النووي يشكل حصراً أزمة مع واشنطن ودول الترويكا الأوروبية، وأن هذه الدول فقط لديها مخاوف ومحاذير من امتلاك طهران برنامجاً نووياً عسكرياً على مشارفه ويمكن الانتقال إليه في أقل مدة زمنية.
ومن الخطأ الإستراتيجي في علاقة إيران مع دول المحيط العربي، تحديداً الخليجي وبالأخص السعودية، أن تذهب إلى البناء على التفاهمات الثنائية وإنهاء حال التوتر والعودة لتطبيع العلاقات، واعتبارها السقف الذي يمكن أن تقدمه من تنازلات، فهذه الدول وإن ذهبت إلى ترميم علاقاتها مع إيران ونظامها والحوار حول مجمل الملفات الإقليمية ووضع خريطة طريق للتعاون وبناء الثقة المتبادلة، إلا أنها لا تقل قلقاً عن واشنطن والترويكا الأوروبية من الطموحات النووية للنظام الإيراني، بخاصة أنها تعتقد بأن التمسك الإيراني بالأنشطة النووية والاقتراب من السلاح النووي أو امتلاكه سيطلقان سباقاً نووياً في الإقليم لا تعرف نهاياته ونتائجه، فضلاً عن أن السلاح النووي الإيراني يعني انقلاباً في المعادلات الإستراتيجية والسياسية في المنطقة لا يمكن أن تقبل بها هذه الدول أو توافق عليها.
هذه المسلمات والثوابت، تدفع النظام الإيراني، في موازاة الضغوط التي يواجهها، وتفرض عليه ضرورة التوصل إلى حلول لأزماته مع المجتمع الدولي تنهي العزلة الاقتصادية المترتبة على العقوبات الاقتصادية المزمنة، تدفعه إلى البحث عن مخارج لأزمة العزوف والتريث الأميركي في العودة لطاولة التفاوض وإعادة إحياء الاتفاق النووي، كما أن التوصل إلى تفاهم على اتفاق مرحلي يفضي إلى حلول حول الأنشطة النووية مقابل رفع بعض العقوبات الاقتصادية.
وإذا ما كان النظام يسعى بشكل جدي إلى إعادة إحياء الاتفاق وجرّ جميع الأطراف الموقعة إلى العودة لتنفيذه أو الالتزام بروحه بالحد الأدنى، إلا أنه في مساع موازية، يسعى إلى إدخال بعض التعديلات على آليات الاتفاق أو أي تفاهم جديد، بحيث تضمن له خط العودة وتقلل من الاتهامات الداخلية باستخدام الاتفاق في الصراع على السلطة مع قوى المعارضة الإصلاحية والمعتدلة، وإفشال آثاره الإيجابية وتضييع نتائجه الاقتصادية والسياسية، وتسمح له بتقديم نفسه منتصراً في المواقف التي رفعها والتي ادعى فيها أنه يعمل على اتفاق أكثر إنصافاً، ويسد الضعف والخلل الموجودين في الاتفاق السابق، بخاصة أنه على الأرجح سيسعى إلى تقديم مسوغات لما يمكن أن يقدمه من تنازلات جوهرية حول أنشطة تخصيب اليورانيوم والقبول بوقفها عند مستوى 60 في المئة إذا استطاع، أو العودة لمستوى 20 في المئة.
ويبدو أن النظام ما زال يراهن في أي مفاوضات نووية محتملة أو مرتقبة مع الإدارة الأميركية، على تحقيق بعض التعديلات على آليات الاتفاق السابق، بخاصة تلك التي تتعلق بإمكانية الاحتفاظ باليورانيوم المخصب ومعه أجهزة الطرد المركزي بعد تفكيكها في مستودعات على الأراضي الإيرانية على أن تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بختمها بالشمع الأحمر وفرض رقابة صارمة عليها، وأن هذا الإجراء في حال وافقت عليه واشنطن، سيكون بمثابة الضمانة التي يطالب بها النظام بعدم الانسحاب الأميركي مستقبلاً من الاتفاق، وفي حال الانسحاب تكون إيران قادرة على العودة لاستئناف أنشطتها بأقل خسائر ممكنة وبأسرع وقت.
إضافة إلى هذه الخطوة، تسعى إيران إلى إدخال تعديلات على النصوص الخاصة بآلية الزناد الواردة في اتفاق عام 2015 التي تسمح لأي من الأعضاء التوجه إلى مجلس الأمن منفرداً لطلب استخدامها وإعادة العقوبات الدولية ضد إيران، والتغيير الذي تسعى إليه طهران اشترط أن يكون الطلب بإجماع الأعضاء أو أكثريتهم، بحيث يمكنها المراهنة على التسويات والتفاوض مع هؤلاء الأعضاء لإفشال هذه الآلية، فضلاً عن رغبتها في ألّا يكون عمل اللجنة المكلفة مراقبة الالتزام بالاتفاق محصوراً بالجانب الإيراني وأن يشمل كل الدول الموقعة.
اندبندت عربي