عندما زارت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيولسي تايوان في خضم صراع جيواستراتيجي متصاعد مع الصين، في أغسطس (آب) العام الماضي، ردت بكين بفرض عقوبات تجارية على تايبيه، معلنة تعليق استيراد بعض أنواع الفواكه والأسماك من تايوان، بما يشمل أكثر من ألفي شركة مواد غذائية تايوانية، إضافة إلى تعليق تصدير الرمال الطبيعية من الصين إلى الجزيرة، بينما استبعدت سلع أخرى من العقوبات، مثل أشباه الموصلات ومنتجات التكنولوجيا الفائقة التي تضع تايوان في مركز عالمي مهم يقبع في قلب التوتر بين واشنطن وبكين.
تنتج تايوان 65 في المئة من أشباه الموصلات في العالم، ونحو 90 في المئة من الرقائق الإلكترونية المتطورة، وفقاً لشركة “تريند فورس” للأبحاث في تايبيه. فيما تنتج الصين نحو خمسة في المئة، والولايات المتحدة نحو 10 في المئة، وتعد كوريا الجنوبية واليابان وهولندا المصادر الأخرى للمنتج الذي يشكل جزءاً أساسياً من الأجهزة والآلات الإلكترونية من أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية إلى مستشعرات المكابح في السيارات.
وتعزى هيمنة تايوان على إنتاج الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات إلى “شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات” TSMC الأكبر في العالم التي توفر الإمدادات لشركات التكنولوجيا الكبرى مثل أبل وكوالكوم ونفيديا.
النفط الجديد
بينما تتعامل الصين مع تايوان كمقاطعة تابعة للبر الرئيس، وتسعى إلى إعادتها إلى سيادتها على رغم استقلالها منذ عام 1949، فإن القدرات الصناعية لتلك الجزيرة التي يقطنها 23 مليون نسمة وضعتها في موقع فريد ضمن الخريطة التكنولوجيا في العالم. زاد انتباه العالم وحاجته إلى تايوان في أعقاب جائحة فيروس كورونا، عندما عانت صناعة السيارات نقصاً في الرقائق المستخدمة في كل شيء من أجهزة الاستشعار إلى تقليل الانبعاثات. فعندما اضطرت شركات صناعة السيارات بما في ذلك “فولكس فاجن” الألمانية وشركة “فورد موتور” الأميركية وشركة “تويوتا موتور” اليابانية إلى وقف الإنتاج وتعطل المصانع، أصبحت أهمية تايوان أكبر من أن يتجاهلها العالم.
ويقول غريغوري ألين مدير مشروع حوكمة الذكاء الاصطناعي لدى مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية، إنه مثلما يدرك الأميركيون أن السعودية لاعب رئيس في الاقتصاد العالمي، لأنها تنتج أكثر من 10 في المئة من نفط العالم، فإن تايوان باتت تستحوذ على أهمية خاصة مع إنتاجها أكثر من 90 في المئة من رقائق الكمبيوتر أو أشباه الموصلات الأكثر تقدماً في العالم، حتى إن خبراء الأمن القومي يصفون أشباه الموصلات بأنها “النفط الجديد” عندما يتعلق الأمر بالجغرافيا السياسية والأمن الدولي. فاليوم تعتبر رقائق الكمبيوتر مدخلات حيوية ليس فقط لمراكز البيانات والهواتف الذكية، لكن أيضاً للسيارات والبنية التحتية الحيوية وحتى الأجهزة المنزلية مثل الغسالات. ونظراً إلى أن الاقتصاد العالمي أصبح رقمياً بشكل متزايد، فقد نما أيضاً معتمداً أكثر فأكثر على الرقائق.
حرب الرقائق
استخدمت واشنطن الرقائق الإلكترونية في حربها الاقتصادية أو بالأحرى صراعها الجيوستراتيجي مع بكين. فاستطاعت إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب قطع إمدادات أشباه الموصلات من تايوان وغيرها لشركة “هواوي” الصينية بعدما حظرت وصول بكين إلى جميع تكنولوجيا الرقائق الأميركية. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2022 فرضت إدارة الرئيس الحالي جو بايدن مجموعة من ضوابط التصدير التي تقيد مبيعات الرقائق الإلكترونية المتقدمة للصين، التي تتضمن الرقائق المصممة لتشغيل تطبيقات الذكاء الاصطناعي وأجهزة الكمبيوتر العملاقة العسكرية، إضافة إلى معدات التصنيع الخاصة بالرقائق.
ويقول ألين إنه نظراً إلى أن الشركات الأميركية تصمم أكثر من 95 في المئة من رقائق الذكاء الاصطناعي المستخدمة في الصين، وكذلك تنتج معدات التصنيع المستخدمة في كل مصنع رقائق صيني، فإن ضوابط التصدير هذه تشكل عقبة غير عادية أمام طموحات الصين لقيادة العالم في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتحقيق الاكتفاء الذاتي من أشباه الموصلات.
وسرعان ما قفزت تايوان للجانب الأميركي معلنة في الثامن من أكتوبر أنها لن تسمح لشركات تصميم الرقائق الصينية بالتعاقد مع مصانع الرقائق التايوانية لإنتاج رقائق يمكن أن تحل محل تلك التي لم تعد الولايات المتحدة تسمح بإرسالها إلى الصين. ولدى تايوان سبب كاف لدعم واشنطن، فالرئيس الأميركي جو بايدن كان أكثر انفتاحاً من أي رئيس أميركي منذ عقود بشأن الدفاع عن تايوان من غزو صيني محتمل، فضلاً عن أن صناعة أشباه الموصلات التايوانية كانت أيضاً ضحية للتجسس الصناعي المدعوم من الحكومة الصينية وحملات صيد المواهب. وأشارت كوريا الجنوبية أحد أقرب حلفاء الولايات المتحدة في آسيا إلى أنها ستقطع أيضاً إمدادات الرقائق إلى الصين في حال فرض واشنطن عقوبات عالمية عليها. وسيؤدي قطع الإمدادات إلى وضع الصين وروسيا في موقف ضعيف تقنياً بشكل كبير، ويعيق تصنيعهما للمعدات العسكرية المتقدمة.
ويقول مراقبون إن حكومة تايوان تدرك أن هدف الصين هو إنهاء اعتمادها الاستراتيجي على أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية التايوانية، التي تشير إليها تايوان باسم “درع السيليكون”، بأسرع ما يمكن. بطبيعة الحال فإن تايوان ملتزمة بسياسات الولايات المتحدة التي تهدف إلى منع ذلك، على رغم أنها تفضل عموماً أن تكون هادئة قدر الإمكان حيال ذلك لتقليل رد الفعل من الصين.
هيمنة تايوان الخطرة
في حين ترغب واشنطن في منع الصين من الحصول على التكنولوجيا الكافية للاعتماد الذاتي في إنتاج الرقائق الإلكترونية، فإنها ربما تسعى إلى تقويض صناعة الرقائق الإلكترونية في تايوان أيضاً بسبب مخاوف عدة. فعندما لجأ صانعو السيارات في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وحكوماتهم لتايوان لسد نقص الرقائق الإلكترونية عام 2021، فإنهم منحوا تايبيه نفوذاً سياسياً واقتصادياً في عالم يتم فيه تجنيد التكنولوجيا في تنافس القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين، وفق تعبير شبكة “بلومبيرغ” الأميركية. لذا يعتبر الغرب قبضة تايوان على أعمال أشباه الموصلات يمثل نقطة تهديد في سلسلة التوريد العالمية، مما يدفع كثيراً من القوى من طوكيو إلى واشنطن لزيادة الاعتماد على الذات.
يتعلق القلق الرئيس من هيمنة تايوان على صناعة الرقائق الإلكترونية في كونها تحت تهديد مستمر من غزو صيني، إذ ترفض بكين التخلي عن استخدام القوة لحل النزاع حول وضع الجزيرة. وخلال السنوات السابقة نشرت الصين كجزء من توسعها العسكري المستمر صواريخ على طول مضيق تايوان، وتجري تدريبات عسكرية بشكل دوري بالقرب من الجزيرة، وأرسلت طائرات مقاتلة وحاملة طائراتها فوق المضيق وحوله في استعراض للقوة. وقبل أيام أجرت الصين مناورات عسكرية حول تايوان شملت محاكاة لهجمات وحصار للجزيرة التي تعتبرها جزءاً لا يتجزأ من أراضيها. وحذرت مجموعة السبع بكين باستمرار من أية محاولة لتغيير الوضع القائم بالقوة في ما يتعلق بتايوان، ودق بعض أعضائها ناقوس الخطر في الأيام الأخيرة.
يقول مراقبون إن القلق الأكبر هو أن مصانع الرقائق التابعة للشركة التايوانية من شأنها أن تحدث ضرراً جماعياً إذا أقدمت الصين على تهديداتها بغزو تايوان. فيمكن للغزو العسكري لتايوان أن يعطل إمدادات أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية ويعرقل بشكل خطر عشرات من شركات التكنولوجيا الفائقة التي تعتمد عليها. وأعرب رئيس الشركة التايوانية مارك ليو عن قلقه في هذا الصدد عندما حذر العام الماضي من أن الغزو العسكري سيجعل مصانع TSMC غير صالحة للعمل.
كما يتعلق قلق واشنطن بسيطرة الصين على صناعة الرقائق الإلكترونية إذا نجحت في ضم تايوان لسيادتها. ففي مارس (آذار) الماضي قال مستشار الأمن القومي الأميركي السابق روبرت أوبراين إن بلاده ستدمر صناعة الرقائق الإلكترونية شديدة التطور في تايوان حتى لا تتمكن الصين من الاستيلاء عليها إذا نجحت في ضم الجزيرة. مضيفاً في تعليقات صحافية “إن الولايات المتحدة وحلفاءها لن يتركوا تلك المصانع تقع في أيدي الصينيين”. وقارن الأمر بقرار رئيس الوزراء البريطاني الراحل وينستون تشرشل بتدمير الأسطول البحري الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية بعد استسلام فرنسا لألمانيا النازية، مما أسفر عن مقتل أكثر من 1000 بحار.
سباق الرقائق
مثل تايوان تعد اليابان وهولندا أيضاً عمالقة عالميين في صناعة أشباه الموصلات، فإلى جانب الولايات المتحدة تسيطر مجموعة هذه الدول على سوق المعدات المعقدة التي تعد عنصراً حيوياً في كل مصانع الرقائق. في حين أن هناك شركات صينية تنتج معدات تصنيع أشباه الموصلات فإنها تنتج جزءاً صغيراً فقط من عديد من الأنواع المختلفة من المعدات المطلوبة لإنتاج الرقائق، والمعدات التي تنتجها الشركات الصينية متأخرة جداً عن أحدث التقنيات في الولايات المتحدة وهولندا واليابان. فوفقاً لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية تحتوي الآلات الهولندية الأكثر تقدماً على سبيل المثال على أكثر من 100 ألف قطعة وتتكلف أكثر من 340 مليون دولار لكل منها وتنافس تلسكوب جيمس ويب الفضائي من حيث التعقيد التكنولوجي.
من جانب آخر تكثف الولايات المتحدة جهودها لتعزيز قدراتها في صناعة الرقائق وتقليل الاعتماد على المصادر الخارجية. ووقع بايدن العام الماضي قانون “CHIPS and Science – رقائق والعلوم” الذي طال انتظاره، الذي يخصص نحو 52 مليار دولار لتعزيز إنتاج الرقائق الدقيقة، المحرك القوي للإلكترونيات المتطورة المستخدمة في مجموعة واسعة من المنتجات، بما في ذلك الهواتف الذكية والمركبات الكهربائية والطائرات والعتاد العسكري. إذ أكدت وزيرة التجارة الأميركية جينا ريموندو في وقت سابق ضرورة تقليل الاعتماد على الإمدادات من تايوان، قائلة إن “اعتمادنا على تايوان للحصول على الرقائق لا يمكن الدفاع عنه وغير آمن.”
وخلال إدارة ترمب تفاوضت واشنطن مع تايوان لإنشاء مصنع لتصنيع الرقائق بقيمة 12 مليار دولار في ولاية أريزونا. وبالمثل اتفقت مع شركة “سامسونج” للإلكترونيات الكورية الجنوبية على منشأة بقيمة 10 مليارات دولار في أوستن بولاية تكساس. كما جرى تقديم “قانون CHIPS for America- رقائق من أجل أميركا”، الذي جرى تمريره من قبل الكونغرس العام الماضي، الذي يهدف إلى تشجيع إنشاء مزيد من المصانع في الولايات المتحدة.
في المقابل تضغط الصين من أجل تعزيز قدرتها المحلية على تصنيع أشباه الموصلات. وقد تعهدت بكين بتخصيص مبلغ 150 مليار دولار لتوسيع الصناعة وزيادة الاعتماد على الذات، التي في إطارها جرى وضع الخطط لبناء مصانع جديدة لإنتاج أشباه الموصلات. ووفق مكتب الإحصاء الوطني الصيني نما تصنيع الرقائق في الصين بنسبة 33.3 في المئة خلال عام 2021. فيما يتوقع المراقبون أن تنتج الصين رقائق أكثر تطوراً مما سبق.
اندبندت عربي