يقضي قانون «الإدارة المالية الاتحادية» رقم 6 لسنة 2019 أنه «لا يجوز أن يزيد العجز في الموازنة التخطيطية عن 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي» (المادة 6/ رابعا) كما يقضي أن يقدم ديوان الرقابة المالية تقريرا عن البيانات المالية الاتحادية/ الحسابات الختامية إلى وزير المالية الاتحادي في 15 أيلول/ سبتمبر لدراسته قبل عرضه على مجلس النواب قبل 30 أيلول/ سبتمبر لمناقشته وإقراره (المادة 34/ ثالثا/ ب). وهذه المادة هي تأكيد على ما ورد في قانون مجلس النواب رقم 13 لسنة 2018 أي أن يعرض الحساب الختامي على المجلس في مدة لا تزيد عن تسعة أشهر من تاريخ انتهاء السنة المالية التي تنتهي في 31 كانون الثاني/ ديسمبر من كل عام (المادة 21/ أولا). والمطلبان القانونيان لم يلتفت اليهما أحد في العراق، والأكيد أن الموازنة ستمر وبنسبة عجز تصل إلى ما يزيد عن عشرة أرقام الرقم المحدد في القانون، ولن يتذكر أحد موضوع الحسابات الختامية التي لم تقدم على مدى عشرة أعوام!
أحيل مشروع قانون الموازنة إلى مجلس النواب بتاريخ 16 آذار/ مارس 2023 وكان يفترض، أن يقوم مجلس النواب بقراءته قراءة أولى تمهيدا لتشريعه، في أقرب فرصة ممكنة، فنحن نتحدث هنا عن موازنة تأخر تقديمها 100 يوم تقريبا بعد بداية السنة المالية! لكن هذا لم يحدث، فقد شهدنا صراعا علنيا بين رئيس مجلس الوزراء، ورئيس مجلس النواب حول الموازنة، أدى إلى تأخير عرضها على المجلس، وبسبب إصرار الإطار التنسيقي، الذي يعد التحالف الحاكم اليوم، على تقديمها، منح رئيس مجلس النواب نفسه إجازة لمدة 15 يوما بداية من يوم 4 نيسان/ أبريل اعتراضا على الموازنة، وبالفعل لم يقرأ مشروع القانون إلا يوم 5 نيسان/ أبريل في جلسة أدارها النائب الأول لمجلس النواب!
أشار تقرير اللجنة المالية بشأن مشروع قانون الموازنة، إلى أن الإيرادات المخمنة للسنة المالية 2023، بلغت 134.6 ترليون دينار عراقي (103.5 مليار دولار) في حين بلغ حجم النفقات المقدرة للسنة المالية 2023 199ترليون دينار (153 مليار دولار) وأن العجز المخطط ما يقارب 64.5 ترليون دينار (49.6 مليار دولار) أي ما يشكل 48٪ من اجمالي الإيرادات! وأنه من بين مصادر تمويل هذا العجز الهائل المرتقبة، إصدار سندات وحوالات خزينة للمصارف الحكومية بما يقارب 28.5 ترليون دينار عراقي. وقروض داخلية وخارجية بما يقارب 13.2 ترليون دينار (أي ما يزيد عن 10 مليار دولار)!
ضرورة إعادة النظر في حجم الإنفاق المخطط، وتخفيض مستوى العجز وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام، وهذه التوصيات من شأنها أن تدفع اللجنة إلى إعادة مشروع قانون الموازنة إلى الحكومة للقيام بذلك
كما أوضح التقرير أن اجمالي عدد القوى العاملة في القطاع العام قد زاد بما يقارب 833 ألف موظف في العام 2023، وأن هذه الزيادة تشكل 13٪ من إجمالي القوى العاملة في العام 2021!
لكن مراجعة قانون الموازنة لعام 2021 تكشف أن اجمالي القوى العاملة في تلك السنة بلغ 3 ملايين و263.8 ألف موظف، وبحساب الزيادة لعام 2023 سيكون الرقم 4 مليون و96.3 ألف موظف، وهذا يعني أن الزيادة في القوى العاملة بلغ 25,5٪ وليس 13٪ كما ورد في التقرير!
كما يشير التقرير إلى أن عدد القوى العاملة في وزارة التربية قد ارتفع من 154.1 ألف موظف في العام 2021، إلى 963.9 مليون موظف في العام 2023، أي نسبة زيادة مقدارها 525٪! وأن عدد القوى العاملة في وزارة الصحة قد ارتفع من 116.4 ألف موظف في العام 2021 إلى 488.2 ألف موظف في العام، أي نسبة الزيادة 320٪! دون أن ينتبه أحد في اللجنة المالية إلى أن هكذا أرقام ليست غير منطقية وحسب، لكنها أيضا تتناقض مع الأرقام المتعلقة بزيادة القوى العاملة الواردة في التقرير نفسه! ففي الحقيقة هذه أرقام غير صحيحة، ومن المعيب ان ترد في تقرير رسمي! إذ لم ينتبه أعضاء اللجنة المالية، ومعظمهم غير مختص، أن ثمة قانونا شُرِّع عام 2013 بعنوان قانون التعديل الثاني لقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم قرر فك الارتباط ونقل الصلاحيات من 8 وزارات إلى الحكومات المحلية، كان من بينها وزارتا التربية والصحة، بما فيها «الموظفون والعاملون فيها» وأنه لو عاد أحد أعضاء اللجنة إلى قانون الموازنة الاتحادية لعام 2016، أي قبل نقل الصلاحيات، لوجد أن عدد القوى العاملة في وزارتي التربية والصحة كان 686.1 و 262.5 ألف موظف على التوالي!
ثمة أرقام أخرى غير مفهومة وردت في التقرير، من بينها «وصول إجمالي رصيد الدين العام لمعدلات عالية جدا وتحمل في طياتها مخاطر مالية مستقبلية، إذا وصل رصيدها لغاية نهاية سنة 2022 مبلغ «95» ترليون دينار، منها 70 ترليون الدين الداخلي! وهذا رقم غير مفهوم تماما فيما يتعلق بالدين الخارجي! ففي مناقشة الموازنة العامة لعام 2021 في مجلس النواب العراقي أعلن وزير المالية السابق علي عبد الأمير علاوي أن حجم الدين الخارجي للعراق بلغ 160 ترليون دينار (133.3 مليار دولار) وحتى لو حذفنا منها الدين الخاص بالسعودية والكويت الذي لا تعترف به الحكومة العراقية وتعده دينا معدوما بالنسبة لها، فان هذا يعني أن حجم الدين الخارجي يبلغ 93.3 مليار دولار وليس 25 ترليون دينار (19.2 مليار دولار)!
ولكن بمعزل عن هذه الأخطاء غير المسوّغة وغير المفهومة، ثمة ملاحظات هامة انتهى اليها التقرير، من بينها الحديث عن التوسع بشكل كبير جدا في حجم النفقات الجارية المقدرة التي شكلت نسبة 75٪ من الإنفاق العام، وبالتالي وجود مخاطر مالية عالية تتعلق بقدرة الخزينة العامة للدولة في تأمين النفقات العامة مع التوقع بانخفاض الطلب وأسعار النفط عالميا، وزيادة العملة المصدرة للتداول الذي تجاوز 95 ترليون دينار، وزيادة الضغط على حجم احتياطي العملة الأجنبية في البنك المركزي العراقي (لم يشر التقرير مطلقا إلى أن إصدار سندات وحوالات خزينة للبنوك الحكومية هو انتهاك صريح لقانون البنك المركزي العراقي الذي يحظر اقراض الحكومة).
وكانت أهم التوصيات تفي بضرورة إعادة النظر في حجم الإنفاق المخطط، وتخفيض مستوى العجز وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام، وهذه التوصيات من شأنها أن تدفع اللجنة إلى إعادة مشروع قانون الموازنة إلى الحكومة للقيام بذلك، وهو ما لم يحدث، بل أوصت اللجنة بعرض مشروع القانون للقراءة الثانية تمهيدا لتشريعه!
القدس العربي