عام 1979 والأحداث الثلاثة التي غيرت العالم

عام 1979 والأحداث الثلاثة التي غيرت العالم

ثلاثة أحداث عظام وقعت في عام واحد أعادت ترتيب الأوضاع في العالم والشرق الأوسط والعالم العربي بطريقة لا عودة منها: الغزو السوفييتي لأفغانستان في أيام الرئيس ليونيد برجينيف، والثورة الإسلامية في إيران التي قادها الإمام الخميني، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد بين الكيان الصهيوني ورئيس جمهورية مصر العربية، أنور السادات. لقد تركت هذه الأحداث بصماتها على العلاقات الدولية والإقليمية والعربية بطريقة جذرية لا مجال لمحو آثارها العميقة. وأود أن أؤكد أولا أن تلك الأحداث الكبرى المتباعدة والمتشابكة والمتلاحقة في نهاية المطاف قد انعكست سلبا على القضية الفلسطينية ودفع الفلسطينيون، شعبا ومقاومة، ثمنا باهظا لتلك التطورات التي ليس لهم، بالضرورة، دور في صناعتها. وسأراجعها حسب الأهمية، من وجهة نظري.

الغزو السوفييتي لأفغانستان

بتاريخ 24 ديسمبر 1979 اندفعت قوة سوفييتية إلى أفغانستان مكونة من 100000 عسكري لحماية حليفهم الماركسي، ببراك كرمال، لكن سرعان ما وجدوا أنفسهم قد غرقوا في مستنقع البلاد وأصابتهم لعنة كره الأجنبي التي وحدت فئات الشعب الأفغاني كافة، ضد المحتلين السوفييت. بدأت المقاومة الفعالة في منتصف عام 1980 عندما تكاتفت عدة دول وأخذت على عاتقها دعم المجاهدين. فكانت باكستان تستقبل وتدرّب، والسعودية تموّل، والولايات المتحدة تسلح وتخطط وتسهل. وصل عدد القوات السوفيتيية والقوات المحلية إلى ما يزيد عن 300.000 مقاتل عام 1986. تشكلت قيادة موحدة من الفصائل الجهادية السبعة، وأنيطت القيادة لشاه مسعود. يومها كانت مقاومة السوفييت تسمى جهادا يباركه خطباء الجمع ويحرضون على التطوع للجهاد ضد الملحدين. تدفق المتطوعون العرب والمسلمون، حيث تجاوز عددهم نحو 100000. بعد عشر سنوات من القتال وجدت الإمبراطورية السوفييتية نفسها عاجزة عن حسم المعركة فقرر غورباتشيف لملمة جراحه ولعق كرامته والانسحاب، حيث تم سحب آخر جندي سوفييتي في 15 فبراير 1989 لتبدأ بعد ذلك عملية تفكك تلك الإمبراطورية الواسعة، التي استغرقت سنة وبضعة أشهر، حيث تناثر عقدها مخلفا خمس عشرة دولة مستقلة. تغيرت الدنيا بعدها. استفردت الولايات المتحدة بالعالم وأصبحت الآمر الناهي في كل القضايا. تفككت بعدها يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، وتوحدت ألمانيا لتصبح القوة الأوروبية الأكبر، وشنت أمريكا الحروب في كل اتجاه من بنما إلى العراق ومن الصومال إلى أفغانستان، ومن كوسوفو وصربيا إلى إعلان الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. استغلت الولايات المتحدة والغرب عموما، رخاوة بوريس يلتسين، المولع بالشراب، فتسربت في تفاصيل الاقتصاد الروسي بهدف تدمير البلاد وتفكيك جيشها. قامت عدة محاولات انقلابية عليه فشلت جميعها، وفي أحد المحاولات قام يلتسين بقصف البرلمان بالدبابات دون أن يثير ذلك انتقاد الدول الغربية المنافقة، تسلم فلاديمير بوتين، الرئيس السابق لجهاز المخابرات «كي جي بي» زمام الأمور عام 1999 فبدأ يغيّر المعادلة. ركز أولا على بناء اقتصاد البلاد بالانفتاح المدروس على الغرب لتصدير البترول والغاز خاصة لأوروبا. وما هي إلا سنوات قليلة وإذا بالاتحاد الروسي يصبح قوة اقتصادية كبرى ضمت لمجموعة الدول الصناعية السبع. أحست الدول الغربية بهذا التحول فتراجعت عن وعدها بعدم توسيع حلف الناتو فقامت بضم معظم دول أوروبا الشرقية للحلف ما عدا جورجيا وأوكرانيا. وبدأ التخطيط لضم أوكرانيا، خاصة بعد انقلاب 2014 وسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم. ومنذ تلك الحرب وحتى بدء العملية العسكرية في أوكرانيا في 24 فبراير 2022 والغرب يخطط ويسلح ويجهز، لجرّ الاتحاد الروسي لحرب طويلة الأمد وإعادة تجربة أفغانستان، آملين في أن هذه الحرب ستفكك الاتحاد الروسي، كما فككت حرب السنوات العشر الاتحاد السوفييتي. غبار المعارك ما زال محتدما والأمور لم تحسم بعد، لكن المستفيد الأكبر من هذه الحرب هي الصين، التي بدأت تتأهل لأخذ موقع الصدارة.

أحداث كبرى متشابكة ومتلاحقة انعكست سلبا على القضية الفلسطينية ودفع الفلسطينيون، شعبا ومقاومة، ثمنا باهظا لها

الثورة الإيرانية

عام 1953 قرر رئيس الوزراء الإيراني المحبوب محمد مصدق أن يؤمم البترول، فطرده الشاه من منصبه، إلا أن الجماهير تدفقت بمئات الألوف لحمايته، ما أدى إلى هرب الشاه محمد رضا بهلوي إلى إيطاليا. دبرت أجهزة المخابرات البريطانية والأمريكية انقلابا سريعا وضع على أثرها مصدق السجن، وأعيد الشاه ليحكم البلاد 26 سنة أخرى بالقبضة الحديدية. ظلت الحوزة الدينية تتمتع بشيء من الحرية وتطلق الانتقادات للشاه أحيانا حول مسألة التغريب والفقر والبذخ، الذي يعيشه الشاه وعائلته. من بين الذين طردهم الشاه من الحوزة روح الله الخميني الذي استقر في النجف الأشرف بالعراق منذ عام 1964. وبقي يحرض ضد الشاه، إلى أن هدد القيادة العراقية بإخراجه من البلاد فتم ذلك فورا، حيث أخرج من النجف عام 1978 إلى الكويت ثم استقر في باريس. انطلقت الثورة الإيرانية من الحوزة في نهاية عام 1977 ثم اتسعت في فبراير 1978 وبدأت تجذب شرائح أكبر من قطاعات المجتمع الإيراني، وعندما أعلن الجيش الحياد هرب الشاه ولم يجد بلدأ يأويه، لولا أن السادات استضافه ليموت في مصر. عاد الخميني مظفرا إلى طهران في فبراير 1979 واستقبلته الملايين. وأعلن الخميني قيام جمهورية إيران الإسلامية. توجت هذه الثورة تصاعد المد الديني بعد هزيمة يونيو 1967 وانتشار الحركات الإسلامية وأصبحت إيران السند لكل الحركات الإسلامية. بشّر الخميني بانطلاق ثورات إسلامية في الدول التي تدور في الفلك الأمريكي، ما أدى إلى حشد الجهود الخليجية خاصة وراء صدام حسين حيث بدأ الحرب على الخميني في سبتمبر 1980 بعد أن ألغى اتفاقية شط العرب التي وقعها بنفسه في الجزائر عام 1975. استمرت الحرب العراقية الإيرانية ثماني سنوات. تشكلت خلالها فصائل مناصرة لإيران، خاصة في لبنان حيث توجد أقليات شيعية مثل لبنان وسوريا والعراق والبحرين والسعودية والكويت وباكستان وأفغانستان، وأعادت تعريف نفسها وانتماءاتها الأيديولوجية. خرج العراق من حرب الثماني سنوات مدمرا يحمل وزر مليارات الدولارات من الديون. فكان أن توجه إلى الكويت في حرب جاءت في المكان والزمان الخاطئين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. فكانت حرب العراق الأولى عام 1991 لتحرير الكويت، ثم خضع العراق لـ13 سنة من العقوبات دمرت الزرع والضرع، وانتهى الأمر إلى احتلال العراق وتدميره وإعادة تركيبه طائفيا. لقد ضرب احتلال الكويت العمل العربي المشترك، وقسم العرب أقساما وأضر بالقضية الفلسطينية بعد طرد نحو 400 ألف فلسطيني من الكويت، ما سهل وبرر توجه القيادة الفلسطينية إلى مفاوضات مدريد ثم إلى اتفاقيات أوسلو الكارثية، التي ما كان يمكن أن تتم في ظل أجواء قوية من التضامن العربي.. انهار العراق وانهارت معه منظومة العمل العربي وأصبح كل يغني على ليلاه، وتحولت إلى قاعدة عسكرية أمريكية وسوق استهلاكي لأسلحة الغرب وتحولت الجامعة العربية إلى ديكور لا لزوم له.
اتفاقيات كامب ديفيد وخروج مصر من ساحة الصراع
بعد حرب أكتوبر 1973 توجه السادات تماما إلى الولايات المتحدة التي وصفها بأنها تملك 99% من الأوراق وأصبح «العزيز كيسنجر» ضيفا شبه مقيم في القاهرة. وكلف أو تطوع الملك المغربي الحسن الثاني بترتيب اللقاءات بين الوفدين الإسرائيلي والمصري، إلى أن تم وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق «السلام». وأعلن السادات في 9 نوفمبر 1977 في البرلمان وياسر عرفات في الجلسة (كي تبدو أنها صدفة) بأنه على استعداد لزيارة آخر الدنيا بما فيها القدس (ولم يقل تل أبيب ولا إسرائيل ما يدل على أنها شرط مسبق للتدليل على جديته. وهكذا كان. تم التوصل لاتفاقيات السلام في سبتمبر 1978 كامب ديفيد بولاية ميرلاند برعاية الرئيس الأمريكي جيمي كارتر وتم توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في مارس 1979. بعد خروج مصر من ساحة الصراع، تغولت إسرائيل وأطلقت أياديها لتعيث فسادا وخرابا، وتجبر منظمة التحرير على الخروج من لبنان في سبتمبر 1982 لتشتت في المنافي. أعلن ضم الجولان والقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ودمرت إسرائيل المفاعل العراقي عام 1981، وقصفت تونس مرتين، وشنت ثلاث حروب على غزة 2008
و2012 و2014 ومصر لا يعنيها الأمر أبدا. انتشرت الطائفية والإسلام المتطرف والحركات الإرهابية وأصبحت أمريكا وإسرائيل تلعبان في المنطقة كما يحلو لهما. تغولت إيران وتركيا وإسرائيل وأخيرا إثيوبيا على حساب العرب ومصر غائبة. فرّخت اتفاقيات كامب ديفيد اتفاقيات أوسلو (1993) ووادي عربة (1994) وبدأت الاتصالات السرية تتسع بين الأنظمة العربية والكيان، وصولا إلى التطبيع الرسمي مع أربع دول عربية. نحن اليوم أمام نتائج تلك الأحداث العظام، مثل الحروب البينية والنزاع الطائفي والتدخلات الخارجية والتطبيع العربي. لنا أمل أن تتغير الخريطة الدولية بعد حرب أوكرانيا، وخريطة الشرق الأوسط بعد التقارب السعودي الإيراني، والوضع الفلسطيني بعد انتشار ظاهرة المقاومة المسلحة، كما تمثلها مجموعة عرين الأسود وأخواتها، نعم نرى ضوءا خافتا في نهاية النفق.

عبدالحميد صيام

القدس العربي