الغرب بحاجة إلى إستراتيجية جديدة في أوكرانيا

الغرب بحاجة إلى إستراتيجية جديدة في أوكرانيا

بعد مرور أكثر من عام بقليل على اندلاع الحرب، تبين أن أمور أوكرانيا تسير بشكل أفضل بكثير مما توقعته الغالبية. في الواقع، فشلت جهود روسيا لإخضاع جارتها، ولا تزال أوكرانيا دولة ديمقراطية فاعلة مستقلة وذات سيادة، محافظة على حوالى 85 في المئة من الأراضي التي كانت تسيطر عليها قبلالغزو الروسي عام 2014. وفي الوقت نفسه، من الصعب الشعور بالتفاؤل في شأن الاتجاه الذي تسير الحرب نحوه، إذ من المتوقع أن الكلف البشرية والاقتصادية التي تعتبر هائلة في الأساس، سترتفع أكثر بعد مع استعداد كل من موسكو وكييف لخطواتهما المقبلة في ساحة المعركة. ومن المرجح أن التفوق العددي للجيش الروسي يمنحه القدرة على مواجهة تفوق أوكرانيا من ناحية المهارات العملياتية والمعنويات العالية المقترن باستفادتها من الدعم الغربي. وبناء على ذلك، فالنتيجة الأكثر ترجيحاً للنزاع ليست النصر الأوكراني الكامل، بل طريقاً مسدوداً دموياً.

وفي ظل هذه الأوضاع، من الطبيعي أن تزداد الدعوات إلى إنهاء الصراع بطريقة دبلوماسية. لكن بما أن موسكو وكييف قطعتا عهداً على نفسيهما بمواصلة القتال، فالظروف لا تزال غير مواتية للتوصل إلى تسوية تفاوضية. في الحقيقة، تبدو روسيا مصممة على احتلال جزء أكبر من دونباس، فيما يبدو أن أوكرانيا تستعد لهجوم لتحطيم الجسر البري بين دونباس وشبه جزيرة القرم، ووفق ما أكده الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مرات عدة، فهذا الأمر سيمهد الطريق أمام أوكرانيا لطرد القوات الروسية بالكامل واستعادة وحدة أراضيها.

وفي هذا السياق، يحتاج الغرب إلى نهج يقر بهذه الحقائق من دون التضحية بمبادئه. وأفضل مسار للمضي قدماً هو تنفيذ إستراتيجية تسلسلية ذات شقين تهدف أولاً إلى تعزيز القدرة العسكريةلأوكرانيا، ثم مرافقة كل من موسكو وكييف من ساحة المعركة إلى طاولة المفاوضات حينما تنحسر حدة موسم القتال في أواخر هذا العام. ويجب على الغرب أن يبدأ فوراً بتسريع تدفق الأسلحة إلى أوكرانيا وزيادة كميتها وجودتها. وينبغي التركيز على الهدف المتمثل في تعزيز دفاعات أوكرانيا وفي الوقت نفسه العمل على جعل هجومها المقبل ناجحاً قدر الإمكان وقادراً على إلحاق خسائر فادحة بروسيا، وحرمان موسكو من الخيارات العسكرية، وزيادة استعدادها للتفكير في تسوية دبلوماسية. بحلول الوقت الذي سينتهي فيه الهجوم الأوكراني المتوقع، ربما تصبح كييف أكثر تقبلاً أيضاً لفكرة التسوية التفاوضية، لا سيما بعد بذلها قصارى جهدها في ساحة المعركة ومواجهتها صعوبات متزايدة تتعلق بكل من قوتها البشرية والمساعدة من الخارج.

أما الشق الثاني في إستراتيجية الغرب، فمن المفترض أن يكون طرح خطة في وقت لاحق من هذا العام ترمي إلى التوسط في وقف لإطلاق النار، ثم تتبع عملية سلام لاحقة تهدف إلى إنهاء الصراع بشكل دائم. وهناك احتمال كبير بأن تفشل هذه المناورة الدبلوماسية. فحتى في حال استمرار روسيا وأوكرانيا في تكبد خسائر كبيرة، ربما يفضل أحدهما أو كلاهما مواصلة القتال. ولكن مع ارتفاع كلف الحرب واحتمال الوصول إلى طريق عسكري مسدود، فإن الأمر يستحق الضغط من أجل هدنة طويلة الأمد، يمكن أن تمنع تجدد الصراع، بل الأفضل من ذلك، أن تمهد الطريق لسلام دائم.

حرب لا نهاية لها

في الوقت الحالي، لا يزال الحل الدبلوماسي للصراع بعيد المنال. من المحتمل أن يشعر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالقلق من أنه في حال توقف عن القتال الآن، فسوف يلومه الروس على شن حرب مكلفة وعقيمة. بعد كل شيء، لا تسيطر القوات الروسية بشكل كامل على أي من المقاطعات الأربع التي ضمتها موسكو بصورة أحادية في سبتمبر (أيلول) الماضي، وأصبح حلف “الناتو” أكبر وأقوى، وازداد نفور أوكرانيا من روسيا أكثر من أي وقت مضى. وبوتين يعتقد على ما يبدو بأن الوقت في صفه، معتبراً أنه قادر على تجاوز العقوبات الاقتصادية التي فشلت في خنق الاقتصاد الروسي، والحفاظ على الدعم الشعبي للحرب التي تمثل عملية عسكرية ما زال أكثر من 70 في المئة من الروس يدعمونها، وفقاً لاستطلاعات الرأي الصادرة عن مركز ليفادا. واستطراداً، يشك بوتين بقدرة أوكرانيا وداعميها الغربيين على الصمود والمثابرة، ويتوقع أن يتضاءل عزمهم. وهو يحسب بالتأكيد أنه مع دخول المجندين الجدد في القتال، ستتمكن روسيا من توسيع مكاسبها الإقليمية، مما يسمح له بأن يعلن عند توقف القتال أنه وسع حدود روسيا بشكل كبير.

في المقابل، إن أوكرانيا أيضاً ليست في حال مزاجية مناسبة للقيام بتسوية. فالقيادات والشعب على حد سواء يسعون بطبيعة الحال إلى استعادة السيطرة على جميع الأراضي التي احتلتها روسيا منذ عام 2014، بما في ذلك شبه جزيرة القرم. كذلك، يرغب الأوكرانيون أيضاً في تحميل موسكو مسؤولية جرائم الحرب التي ترتكبها القوات الروسية ويريدونها أن تدفع الكلف الهائلة لإعادة الإعمار. إلى جانب ذلك، لدى كييف سبب وجيه للشك بإمكانية الوثوق بأن بوتين سيلتزم أي اتفاق سلام. وعوضاً عن التطلع إلى الغرب من أجل التدخل الدبلوماسي، يطلب القادة الأوكرانيون مزيداً من المساعدة العسكرية والاقتصادية. وفي ذلك الإطار، قدمت الولايات المتحدة وأوروبا قدراً كبيراً من المعلومات الاستخبارية والتدريب والمعدات، لكنهما أوقفتا توفير أنظمة عسكرية ذات قدرة أكبر، على غرار الصواريخ البعيدة المدى والطائرات المتقدمة، خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى استفزاز روسيا ودفعها إلى التصعيد، سواء باستخدام سلاح نووي في أوكرانيا أو مهاجمة القوات أو الأراضي التابعة لاحد أعضاء “الناتو” عمداً.

على رغم أن واشنطن محقة في البقاء حذرة ويقظة في شأن أخطار التصعيد، إلا أن مخاوفها مبالغ فيها. والسياسة الغربية عالقة بين أهداف منع الفشل الكارثي (الذي تقوم فيه روسيا بابتلاع أوكرانيا غير المسلحة) والنجاح الكارثي (الذي يؤدي فيه إفراط التسلح الأوكراني إلى دفع بوتين المحاصر إلى التصعيد). ولكن من الصعب رؤية ما ستجنيه روسيا من التصعيد. فتوسيع الحرب من خلال مهاجمة أحد أعضاء “الناتو” لن يصب في مصلحة روسيا لأن البلاد تواجه بالفعل صعوبة بما فيه الكفاية في محاربة أوكرانيا وحدها، وقواتها مستنزفة بشكل حاد بعد مرور عام على الحرب. وبطريقة موازية، فإن استخدام الأسلحة النووية لن يعود عليها بالنفع أيضاً. ومن المرجح أن الهجوم النووي سيحث “الناتو” على الدخول بشكل مباشر في الحرب والقضاء على المواقع الروسية في جميع أنحاء أوكرانيا، ومن الممكن أن يؤدي إلى تنفير الصين والهند اللتين سبق أن حذرتا روسيا من استعمال الأسلحة النووية.

لكن استحالة [عدم معقولية] استخدام الأسلحة النووية ليست السبب الوحيد وراء تجاهل الغرب لموقف روسيا [وتهديداتها]، فالاستسلام للابتزاز النووي من شأنه أن يعطي إشارة إلى الدول الأخرى بأن هذا النوع من التهديدات ينجح، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع أجندة حظر الانتشار النووي ويضعف قوة الردع. ربما تستنتج الصين، على سبيل المثال، أن التهديدات النووية يمكن أن تردع الولايات المتحدة عن الدفاع عن تايوان في حال وقوع هجوم صيني.

لذا حان الوقت ليتوقف الغرب عن ردع نفسه ويبدأ في منح أوكرانيا الدبابات والصواريخ البعيدة المدى والأسلحة الأخرى التي تحتاج إليها من أجل استعادة السيطرة على مزيد من أراضيها في الأشهر المقبلة. بدأت الدول الأوروبية بتسليم دبابات ليوبارد Leopard، وتعهدت الولايات المتحدة بتقديم 31 دبابة أبرامزAbrams التي من المقرر أن تصل في الخريف. لكن يجب على الطرفين الموجودين على جانبي المحيط الأطلسي زيادة حجم عمليات التسليم ووتيرتها. فإرسال مزيد من الدبابات سيعزز قدرة القوات الأوكرانية على اختراق الخطوط الدفاعية الروسية في جنوب أوكرانيا. في المقابل، إن الصواريخ البعيدة المدى، أي أنظمة الصواريخ التكتيكية للجيش، أو ATACMS التي رفضت الولايات المتحدة تقديمها حتى الآن، ستسمح لأوكرانيا بضرب المواقع الروسية ومراكز القيادة ومستودعات الذخيرة في عمق الأراضي التي تسيطر عليها روسيا، ممهدة الطريق لهجوم أوكراني أكثر نجاحاً. كذلك، يجب أن يبدأ الجيش الأميركي بتدريب الطيارين الأوكرانيين على التحليق بطائرات إف -16. سيستغرق التدريب بعض الوقت، لكن البدء بذلك الآن سيسمح للولايات المتحدة بتسليم طائرات متقدمة عندما يكون الطيارون جاهزين، الأمر الذي سيرسل إشارة إلى روسيا بأن قدرة أوكرانيا على شن الحرب في صعود وتقدم مستمرين.

ولكن على رغم كل الفوائد التي يمكن أن يحققها تعزيز المساعدة العسكرية الغربية، إلا أنه من المستبعد أن يغير ذلك الحقيقة الأساسية التي مفادها بأن هذه الحرب تتجه نحو طريق مسدود. من الممكن بالطبع أن يكون الهجوم الأوكراني المقبل ناجحاً بشكل مذهل ويسمح للبلاد باستعادة جميع الأراضي المحتلة، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، مما يؤدي إلى إلحاق هزيمة ساحقة بروسيا. لكن مثل هذه النتيجة بعيدة الاحتمال. وحتى إذا عزز الغرب مساعدته العسكرية، فمن المتوقع أن تبقى أوكرانيا بعيدة جداً من المستوى المطلوب لهزيمة القوات الروسية إذ إنها تعاني نفاد الجنود والذخائر، واقتصادها مستمر في التدهور. في منحى مقابل، تتخذ القوات الروسية مواقع دفاعية، والمجندون الروس الجدد في طريقهم إلى الجبهة.

علاوة على ذلك، إذا أصبح وضع موسكو العسكري هشاً ومقلقاً، فمن المحتمل تماماً أن الصين ستزود روسيا بالأسلحة، سواء بشكل مباشر أو من خلال دول أخرى. لقد وضع الرئيس الصيني شي جينبينغ رهاناً كبيراً وطويل الأمد على بوتين ولن يقف مكتوف الأيدي في وقت تواجه روسيا خسارة فادحة. وتشير زيارة شي إلى موسكو في مارس (آذار) بوضوح إلى أنه يصر على شراكته مع بوتين، ولا يتراجع عنها. ربما يحسب شي أيضاً أن تقديم مساعدة عسكرية صينية لروسيا ستترتب عليه أخطار متواضعة وضئيلة التأثير في بكين. ففي نهاية المطاف، بدأت بلاده تنفصل فعلياً عن الغرب، ويبدو أن سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين ستصبح أكثر صرامة بغض النظر عن مدى دعم بكين لموسكو.

والجدير بالذكر أن تكثيف العون العسكري لأوكرانيا، على رغم أنه سيساعد القوات الأوكرانية على إحراز تقدم في ساحة المعركة، إلا أنه لا يقدم سوى أمل ضئيل في أن تتمكن كييف من استعادة وحدة أراضيها بالكامل. في وقت لاحق من هذا العام، من المرجح أن تظهر حال من الجمود على طول خط اشتباك جديد. وعندما يحدث ذلك، سيطرح سؤال بديهي: ما الذي سيحدث في المرحلة المقبلة؟

ما بعد الجمود

إن تكرار الشيء نفسه يعدّ أمراً غير منطقي. حتى من وجهة نظر أوكرانيا، لن يكون من الحكمة الاستمرار في السعي بعناد إلى تحقيق نصر عسكري كامل ربما تترتب عليه كلف باهظة. لقد تكبدت القوات الأوكرانية بالفعل خسائر بشرية تتخطى المئة ألف وفقدت عدداً من أفضل قواتها. واستكمالاً، تقلص الاقتصاد الأوكراني بنحو 30 في المئة، ومعدل الفقر آخذ في الارتفاع، وروسيا مستمرة في قصف البنية التحتية الحيوية في البلاد. كذلك، فرّ حوالى 8 ملايين أوكراني من البلاد، فيما نزح [تشرد] ملايين الأشخاص داخلياً. إذاً، ينبغي ألا تخاطر أوكرانيا بتدمير نفسها سعياً وراء أهداف ربما تكون بعيدة المنال.

عند حلول نهاية موسم القتال هذا، سيكون لدى الولايات المتحدة وأوروبا أيضاً سبب وجيه للتخلي عن سياستهما المعلنة الرامية إلى دعم أوكرانيا “مهما طال الأمر”، على حد تعبير الرئيس الأميركي جو بايدن. ويعد الحفاظ على وجود أوكرانيا كدولة ديمقراطية آمنة وذات سيادة من الأولويات، بيد أن تحقيق هذا الهدف لا يتطلب من البلاد استعادة السيطرة الكاملة على شبه جزيرة القرم ودونباس في المدى القريب. كذلك ليس من المفترض أن يشعر الغرب بالقلق من أن الضغط من أجل وقف إطلاق النار قبل أن تستعيد كييف كامل أراضيها سيؤدي إلى انهيار النظام الدولي القائم على القواعد. لقد أدى الصمود الأوكراني والعزم الغربي بالفعل إلى صد جهود روسيا لإخضاع أوكرانيا، وأنزلا بموسكو هزيمة إستراتيجية حاسمة، وأثبتا للرجعيين الآخرين المحتملين أن السعي إلى غزو الأراضي يمكن أن يكون مشروعاً مكلفاً ومربكاً. نعم، من المهم تقليل المكاسب الروسية وإثبات أن العدوان لا يؤتي ثماره، ولكن يجب الموازنة بين هذا الهدف والأولويات الأخرى.

والحقيقة هي أن الدعم المستمر على نطاق واسع لكييف ينطوي على أخطار إستراتيجية أوسع. في الواقع، تؤدي الحرب إلى تقويض الاستعداد العسكري للغرب واستنزاف مخزوناته من الأسلحة، ولا تستطيع القاعدة الصناعية الدفاعية مواكبة استهلاك أوكرانيا للمعدات والذخيرة. وبطريقة موازية، لا يمكن لدول “الناتو” أن تستبعد إمكانية وقوع أعمال عدائية مباشرة مع روسيا، ويجب على الولايات المتحدة الاستعداد لعمل عسكري محتمل في آسيا (يرمي إلى ردع أو مواجهة أي تحرك صيني ضد تايوان) وفي الشرق الأوسط (ضد إيران أو الشبكات الإرهابية).

واستطراداً، تفرض الحرب كلفاً باهظة على الاقتصاد العالمي أيضاً. لقد عطلت سلاسل التوريد، مما أسهم في ارتفاع التضخم وفي نقص بالطاقة والغذاء. وبحسب تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ستقلص الحرب الإنتاج الاقتصادي العالمي بمقدار 2.8 تريليون دولار عام 2023. من فرنسا إلى مصر وصولاً إلى البيرو، يتسبب الإكراه الاقتصادي في اضطرابات سياسية. كذلك، تؤدي الحرب أيضاً إلى استقطاب النظام الدولي. ونظراً إلى أن التنافس الجيوسياسي بين الديمقراطيات الغربية والتحالف الصيني- الروسي ينذر بانقسام العالم مجدداً إلى كتلتين [معسكرين]، فإن بقية المعمورة بمعظمها تختار البقاء على الهامش، مفضلة عدم الانحياز عوضاً عن التورط في مشادات حقبة جديدة من التنافس بين الشرق والغرب. إذاً، فالحرب في أوكرانيا تتسبب في انتشار الفوضى.

في ظل هذه الظروف، لا يمكن لأوكرانيا أو لمؤيديها في “الناتو” اعتبار الوحدة الغربية أمراً مفروغاً منه. وتجدر الإشارة إلى أن الإصرار الأميركي يعدّ أمراً حاسماً لصمود القوة الأوروبية، بيد أن واشنطن تواجه ضغوطاً سياسية متزايدة لخفض الإنفاق وإعادة بناء جاهزية الولايات المتحدة وزيادة قدراتها في آسيا. والآن بعد أن سيطر الجمهوريون على مجلس النواب، سيكون من الصعب على إدارة بايدن توفير حزم مساعدات كبيرة لأوكرانيا. وربما تتغير السياسة تجاه كييف بشكل كبير إذا فاز الجمهوريون بالبيت الأبيض في انتخابات عام 2024. إذاً، حان الوقت لإعداد خطة بديلة.

التوصل إلى اتفاق

بالنظر إلى المسار المحتمل للحرب، يتعين على الولايات المتحدة وشركائها البدء الآن بصياغة خاتمة دبلوماسية. حتى في ظل تكثيف أعضاء “الناتو” المساعدة العسكرية الداعمة للهجوم الأوكراني المقبل، يجب على واشنطن أن تبدأ مشاورات مع حلفائها الأوروبيين ومع كييف في شأن إطلاق مبادرة دبلوماسية في وقت لاحق من هذا العام.

بموجب هذا النهج، سيقترح مؤيدو أوكرانيا الغربيون وقف إطلاق النار حين يبلغ الهجوم الأوكراني المقبل ذروته. من الناحية المثالية، ستسحب كل من أوكرانيا وروسيا قواتهما وأسلحتهما الثقيلة من خط الاشتباك الجديد، مما يؤدي فعلياً إلى إنشاء منطقة منزوعة السلاح. ثم ستتولى منظمة محايدة، إما الأمم المتحدة أو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، إرسال مراقبين يشرفون على وقف إطلاق النار والانسحاب ويطبقونهما. يجب على الغرب أن يتقرب من دول أخرى ذات نفوذ، بما في ذلك الصين والهند، من أجل دعم اقتراح وقف إطلاق النار. وسيؤدي ذلك إلى تعقيد المساعي الدبلوماسية، بيد أن الحصول على تأييد بكين ونيودلهي سيزيد الضغط على الكرملين. في حال رفض الصين دعم وقف إطلاق النار، سيتبين بوضوح أن دعوات شي المستمرة إلى بذل مجهود دبلوماسي هي مجرد بادرة فارغة.

وإذا افترضنا أن وقف إطلاق النار سوف يسري ويستمر، فيجب أن تتبعه محادثات سلام، على أن تنظم على مسارين متوازيين. على المسار الأول، ستجري محادثات مباشرة بين أوكرانيا وروسيا في شأن شروط السلام، تحت إشراف وتيسير وساطة دولية. على المسار الثاني، سيبدأ حلفاء “الناتو” حواراً إستراتيجياً مع روسيا حول الحد من التسلح والهيكل الأمني الأوروبي الأوسع نطاقاً. في الحقيقة، أدت جهود بوتين المبذولة لإلغاء النظام الأمني بعد الحرب الباردة إلى نتائج عكسية وانتهى بها المطاف بتقوية “الناتو”. لكن هذا الواقع لن يزيد إلا من حاجة الحلف وروسيا إلى بدء حوار بناء من أجل منع سباق تسلح جديد، وإعادة بناء الاتصالات العسكرية، ومعالجة القضايا الأخرى التي تعتبر موضع اهتمام مشترك، بما في ذلك الانتشار النووي. والجدير بالذكر أن محادثات “اثنين زائد أربعة” [معاهدة التسوية النهائية في ما يتعلق بألمانيا] التي ساعدت في إنهاء الحرب الباردة توفر سابقة جيدة لهذا النهج. بالاسترجاع، حدثت مفاوضات مباشرة بين ألمانيا الشرقية والغربية في شأن توحيدهما، بينما تفاوضت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والاتحاد السوفياتي على الهيكل الأمني الأوسع بعد الحرب الباردة.

وإذا حققت أوكرانيا مكاسب في ساحة المعركة هذا الصيف، فمن الممكن في الأقل أن ينظر بوتين إلى خطة وقف إطلاق النار والسلام على أنها وسيلة لحفظ ماء الوجه. وبغية جعل هذا النهج أكثر إغراء، يمكن للغرب أيضاً أن يقدم بعض الإعفاء المحدود من العقوبات مقابل استعداد روسيا لالتزام وقف إطلاق النار، والموافقة على منطقة منزوعة السلاح، والمشاركة بشكل هادف في محادثات السلام. وبطبيعة الحال، من المتصور أن يرفض بوتين وقف إطلاق النار، أو أن يقبله فقط من أجل إعادة بناء جيشه ومحاولة غزو أوكرانيا لاحقاً. لكن اختبار مدى استعداد موسكو للتسوية لن يكلف كثيراً. وبغض النظر عن رد روسيا، سيستمر الغرب في توفير الأسلحة التي تحتاج إليها أوكرانيا للدفاع عن نفسها على المدى البعيد والحرص على أن أي وقف للقتال لن يصب في مصلحة روسيا. وإذا رفضت روسيا وقف إطلاق النار (أو قبلته ثم انتهكته)، فإن تعنتها سيزيد من عزلتها الدبلوماسية، ويقوي نظام العقوبات، ويعزز الدعم الأميركي والأوروبي لأوكرانيا.

أما النتيجة الأخرى المعقولة، فهي أن روسيا ستوافق على وقف إطلاق النار من أجل الحصول على مكاسبها الإقليمية المتبقية، ولكنها لا تعتزم في الواقع التفاوض بحسن نية من أجل تأمين تسوية سلمية دائمة. ومن المفترض أن تدخل أوكرانيا في مثل هذه المفاوضات مطالبة بأولوياتها القصوى المتمثلة في استعادتها لحدود عام 1991، وتعويضات كبيرة، والمحاسبة على جرائم الحرب. ولكن نظراً إلى أن بوتين سيرفض بالتأكيد هذه المطالب رفضاً قاطعاً، ربما تنشأ حال من الجمود الدبلوماسي المطول، مما يفضي فعلياً إلى خلق صراع مجمد جديد. من الناحية المثالية، سوف يستمر وقف إطلاق النار، مؤدياً إلى وضع راهن يشبه ذاك الذي كان سائداً في شبه الجزيرة الكورية والذي ظل مستقراً عموماً من دون اتفاق سلام رسمي لمدة 70 عاماً. وعلى نحو مماثل، فإن قبرص مقسمة ولكنها مستقرة منذ عقود. هذه النتيجة ليست مثالية، لكنها أفضل من اندلاع حرب عنيفة وشديدة الحدة تستمر لأعوام.

إقناع كييف

إن إقناع كييف بالموافقة على وقف إطلاق النار والجهود الدبلوماسية غير المؤكدة ربما لا يكون أقل صعوبة من حمل موسكو على القيام بذلك. قد يرى كثير من الأوكرانيين هذا الاقتراح بمثابة تخلٍّ عن القضية وخوف من أن تصبح خطوط وقف إطلاق النار مجرد حدود جديدة بحكم الأمر الواقع. سيحتاج زيلينسكي إلى تقليص أهدافه الحربية بشكل كبير بعد أن وعد بالنصر منذ الأشهر الأولى من الحرب، وهي مهمة ليست سهلة حتى بالنسبة إلى أكثر السياسيين موهبة.

ولكن قد تجد كييف في النهاية نقاطاً كثيرة تعجبها في الخطة. على رغم أن إنهاء القتال سينشئ خط اشتباك جديداً بين روسيا وأوكرانيا، لن يطلب من كييف التخلي عن هدف استعادة جميع أراضيها، بما في ذلك شبه جزيرة القرم ودونباس، ولن تتعرض للضغط من أجل القيام بهذا. وعوضاً عن ذلك، ستتمثل الخطة في تأجيل تسوية أوضاع الأرض والشعب الخاضعين للاحتلال الروسي، وستتخلى كييف عن محاولة استعادة هذه الأراضي بالقوة الآن، وهي مناورة ستكون بالتأكيد مكلفة ولكن من المحتمل أن تفشل، وستتقبل بدلاً من ذلك أنها يجب أن تنتظر انفراجة دبلوماسية لاستعادة وحدة أراضيها. في المقابل، لن تكون هذه الانفراجة ممكنة إلا بعد أن يفقد بوتين مقاليد السلطة. في غضون ذلك، يمكن للحكومات الغربية أن تتعهد برفع العقوبات بالكامل عن روسيا وتطبيع العلاقات معها شرط أن توقع موسكو اتفاق سلام مقبولاً من كييف.

وهكذا تمزج هذه الصيغة بين البراغماتية الإستراتيجية والمبدأ السياسي. لا يمكن أن يكون السلام في أوكرانيا رهينة أهداف الحرب التي مهما كانت مبررة أخلاقياً، من المحتمل أن تكون غير قابلة للتحقيق. وفي الوقت نفسه، ليس من المفترض أن يكافئ الغرب العدوان الروسي بإجبار أوكرانيا بالقوة على تقبل فقدانها الأراضي بشكل دائم. إذاً، يكمن الحل في إنهاء الحرب وفي الوقت نفسه تأجيل الترتيبات النهائية المتعلقة بالأراضي التي لا تزال تحت الاحتلال الروسي.

في أفضل الظروف، ستكون في انتظار الأوكرانين أيام صعبة

حتى إذا استمر وقف إطلاق النار وبدأ تنفيذ عملية دبلوماسية، يجب على دول “الناتو” الاستمرار في تسليح أوكرانيا، وإزالة أي شكوك ومخاوف لدى كييف من أن امتثالها لخريطة طريق دبلوماسية سيعني نهاية الدعم العسكري. علاوة على ذلك، يمكن للولايات المتحدة أن توضح لكييف أنه في حال انتهاك بوتين لوقف إطلاق النار فيما تستمر أوكرانيا في احترامه، فإن واشنطن ستكثف إرسال الأسلحة وتلغي القيود المفروضة على القدرة الأوكرانية في استهداف المواقع العسكرية داخل روسيا التي تنطلق منها الهجمات. إذا رفض بوتين فرصة واضحة لإنهاء الحرب، فستنال الحكومات الغربية استحسان الشعب مجدداً [ستكسب شعبية متجددة] لتقديمها مثل هذا الدعم الإضافي لأوكرانيا.

وكحافز آخر لأوكرانيا، يجب على الغرب أن يعرض على كييف اتفاقاً أمنياً ذات طابع رسمي. على رغم أنه من المستبعد أن يقترح “الناتو” على أوكرانيا الانضمام إليه، إذ يبدو أن الإجماع داخل الحلف بعيد المنال في الوقت الحالي، يمكن لمجموعة فرعية من أعضاء “الناتو”، بما في ذلك الولايات المتحدة، إبرام اتفاق أمني مع أوكرانيا يتعهد بمدّها بالوسائل المناسبة للدفاع عن النفس. هذا الاتفاق الأمني، على رغم أنه لن يرقى إلى مستوى ضمانة أمنية متينة ومحكمة، قد يشبه العلاقة الدفاعية التي تربط إسرائيل بالولايات المتحدة أو العلاقة التي تمتعت بها فنلندا والسويد مع “الناتو” قبل أن تقرر الدولتان الانضمام إلى الحلف. ربما يتضمن الاتفاق أيضاً بنداً مشابهاً للمادة 4 من معاهدة “الناتو”، وهي مادة تدعو إلى إجراء مشاورات عندما يرى أي طرف أن وحدة أراضيه أو استقلاله السياسي أو أمنه معرض للتهديد.

إلى جانب هذا الاتفاق الأمني، يتعين على الاتحاد الأوروبي صياغة ميثاق دعم اقتصادي طويل الأجل واقتراح جدول زمني للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مما يضمن لأوكرانيا أنها على الطريق نحو الاندماج الكامل في الاتحاد. في أفضل الظروف، ستكون في انتظار الأوكرانين أيام صعبة، وستوفر لهم عضوية الاتحاد الأوروبي الضوء الذي يستحقون رؤيته في نهاية النفق [بارقة أمل يستحقون الحصول عليها].

حتى مع هذه الإغراءات، ربما تستمر أوكرانيا في رفض الدعوة إلى وقف إطلاق النار. وفي هذه الحال، لن تكون هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يقرر فيها شريك يعتمد على الدعم الأميركي أن يرفض التعرض لضغوطات تفرض عليه تقليص أهدافه. لكن إذا أعربت كييف عن رفضها، فالواقع السياسي سيتلخص في عدم تمكن الولايات المتحدة وأوروبا من الاستمرار في دعمهما لأوكرانيا، بخاصة إذا قبلت روسيا وقف إطلاق النار. ولن يكون أمام أوكرانيا خيار سوى القبول بسياسة تمنحها الدعم الاقتصادي والعسكري اللازمين للحفاظ على الأراضي الواقعة تحت سيطرتها، أي الغالبية العظمى من البلاد، بينما تلغي احتمال  تحرير الأراضي التي لا تزال تحت سيطرة الاحتلال الروسي بالقوة. علاوة على ذلك، سيستمر الغرب في استخدام العقوبات والنفوذ الدبلوماسي لاستعادة وحدة أراضي أوكرانيا، ولكن على طاولة المفاوضات، وليس في ساحة المعركة.

طريق الخروج

على مدى أكثر من عام، سمح الغرب لأوكرانيا بتحديد معايير النجاح وأهداف الحرب بالنسبة إليه. هذه السياسة، بغض النظر عما إذا كانت منطقية في بداية الحرب، أخذت مجراها الآن. وهي غير حكيمة لأن أهداف أوكرانيا تتعارض مع المصالح الغربية الأخرى. كما أنها غير مستدامة لأن كلف الحرب تتصاعد، والشعب الغربي وحكوماته يزدادان تبرماً من تقديم دعم مستمر. لذا، يجب على الولايات المتحدة، بصفتها قوة عالمية، أن تعترف بأن المبالغة والتزمت في تحديد المصالح في الحرب أنتجا سياسة تتعارض بشكل متزايد مع الأولويات الأميركية الأخرى.

النبأ السار هو أن هناك طريقاً عملياً للخروج من هذا المأزق. يجب على الغرب أن يبذل جهداً أكبر الآن لمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها وإحراز تقدم في ساحة المعركة، لكي يوفر لها أفضل موقع ممكن على طاولة المفاوضات في وقت لاحق من هذا العام. في غضون ذلك، يجب على واشنطن أن تحدد مساراً دبلوماسياً يضمن الأمن والسلام داخل الحدود القائمة بفعل الأمر الواقع في أوكرانيا، فيما تستمبر في العمل على استعادة وحدة أراضي البلاد على المدى الطويل. ربما يكون هذا النهج أكثر من اللازم بالنسبة إلى بعضهم وغير كاف بالنسبة إلى البعض الآخر، ولكن خلافاً للبدائل، فما يميزه هو أنه يجمع بين المنشود والممكن.

 ريتشارد هاس

اندبندت عربي