محطاتٌ خمس في مشروع «الشرق الأوسط الجديد»

محطاتٌ خمس في مشروع «الشرق الأوسط الجديد»

Middle_east

لعلّالفترة التي أعقبت زوال «المعسكر الاشتراكي»، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وانتهاء الحرب الباردة، هي الفترة المثالية – في السياسة الأمريكية – لإطلاق هندسة سياسية جديدة لمنطقة «الشرق الأوسط»، تعيد النظر في خرائطه وحدوده، بعد أن تعذّر عليها إصابةُ حظٍّ من النجاح في ذلك منذ وراثة نفوذ الإمبراطوريتين الهَرِمتين: البريطانية والفرنسية، في المنطقة عقب فشل العدوان الثلاثي على مصر (1956). لا مِرْيةَ في أنها نجحت في تحقيق بضعة أهداف غير قليلة الشأن تغيَّر بتحقيقها، الكثيرُ من موازين القوى والخيارات في المنطقة: إلحاق الهزيمة بمصر وسوريا في حرب عام 1967، إفراغ نصر حرب أكتوبر النسبي من أيّ مضمون سياسي باستدراج نظام السادات إلى تفاوُضٍ منفرد مع «إسرائيل»؛ نقل مصر من دائرة التحالف الاستراتيجي مع الاتحاد السوفييتي إلى دائرة العلاقة بأمريكا ودول الغرب؛ توقيع «اتفاقية كامب ديفيد» وإخراج مصر من الصراع العربي-الصهيوني، إخراج الثورة الفلسطينية من لبنان بموجب «اتفاق فيليب حبيب»، فرض «اتفاق 17 أيار» (1983) على لبنان؛تقوية نفوذ الدول العربية المحافظة في النطاق الإقليمي العربي (خاصةً في العهد الريغاني)؛ دفع العراق وإيران إلى الصدام وتغذية الحرب بينهما.. الخ؛ غير أنّ هذه المنجزَات ما أمكنها أن تفتح لها إمكاناً نحو تحقيق هندسةٍ جديدة للمنطقة على النحو الذي تشاء. كان ما زال ثمة بضعة مواقع اعتراضية حائلة: بقايا النفوذ السوفييتي في الوطن العربي، نجاح العراق في الخروج من حربه مع إيران منتصراً ؛ استعصاء سوريا على التطويع السياسي، استمرار الهاجس الليبي الذي لم تُنْهِه الغارات الأمريكية في عام 1986؛ استمرار النفوذ الفرنسي-الاقتصادي والسياسي- في بلدان المغرب العربي…
وفّر انهيار الاتحاد السوفييتي الفرصة التاريخية للمباشَرَةِ، أمريكياً، في إطلاق مشروعِ هندسةٍ جديدة لمنطقة «الشرق الأوسط» يُعاد، في نطاقها، رسْمُ توازنات قوى جديدة بين دول الإقليم، ويعاد فيها النظر في خرائط الكيانات القائمة وحدودها الموروثة عن التقسيمات الكولونيالية السابقة، بل يُعاد فيها-أيضاً -النظر في الروابط التي تقوم عليها الكيانات السياسية العربية وتشُدُّ بعضَها إلى البعض الآخر.
ولقد جرت وقائع تنفيذ هذه الهندسة الكولونيالية الجديدة تحت عنوان «نظام الشرق الأوسط»، لتمرَّ بمحطاتٍ خمس استهلكت من الزمن عقداً ونصف العقد بين العدوان على العراق (حرب الخليج الثانية في عام 1991) والعدوان على لبنان (حرب تموز 2006). في المحطة الأولى، وهي الحرب على العراق، ليس المجالُ مجال تحليلٍ تفصيلي للسياقات، والأسباب، التي قادتِ العراق إلى قرار الاجتياح العسكري للكويت (الذي نُفِّذ في آب 1990)، أو لمساحة التأثير الخارجي في إنضاج القرار (الإيحاء الأمريكي بالحياد في المنازعة بين دولتين عربيتين)، لكن الذي لا مِرْيةَ فيه أن حرب «عاصفة الصحراء» (17 كانون الثاني 1991) أتت تمثل أول حلْقة من حلْقات تنفيذ مشروع «الشرق الأوسط الجديد». لقد تغيَّت تحقيق جملةِ أهداف مترابطة: تدمير أكبر قوة عسكرية استراتيجية عربية في ذلك الحين؛ إحداث الإخلال الفادح في توازن القوى الإقليمي لصالح التفوُّق الصهيوني؛ جرّ الدول العربية إلى تسوية مُذِلّة تحصد فيها ««إسرائيل»» نتائج الانكفاء الاستراتيجي العربي؛ ناهيك بإحداث الوقيعة بين الدول العربية وتعميق الشرخ والانقسام بينها.
ولا يخامرنا شك في أن رصيد الولايات المتحدة الأمريكية من هذه الأهداف كان كبيراً، في حينه، وفَتَحَ أمام سياستها ممكنات عدّة ما كان لها أن تنفتح لولا العدوان، ومعه السيطرة (الأمريكية)، على القرار الرسمي العربي: الذي بات طيّعاً للغاية، ومنصرفاً عن ثوابته التقليدية انصرافاً كاملاً غير مسبوق!
وكانت المحطة الثانية «مؤتمر مدريد للسلام» في «الشرق الأوسط» (1991). وفي هذا المؤتمر-الذي عقِد على قاعدة مبدأ «الأرض مقابل السلام» و«مرجعية» مائدة التفاوض بدلاً من مرجعية قرارات الأمم المتحدة – سيق العرب إلى تفاوُضٍ غير متكافئ مع «إسرائيل»، وتكرّست فيه صيغة المفاوضات المنفردة على مسارات متوازية. وكان ذلك إعلاناً رسمياً، من الدول العربية، عن نهاية شيء اسمه الصراع العربي-الصهيوني، وبداية العمل بمقولة النزاعات العربية (المنفردة) مع «إسرائيل»: على الحدود والأراضي والمياه، فيما جرى إسقاط جوهر ذلك الصراع (القضية الفلسطينية) تحت عنوان أنها من مشمولات عمل المفاوض الفلسطيني؛ وخاصة بعد أن المفاوض الفلسطيني-في مفاوضات واشنطن- لم يعد يعمل في نطاق الوفد الأردني، بل في نطاق مسارٍ مستقل مع المفاوض ««الإسرائيلي»». ولم تكن هي مدة قصيرة حتى بدأ «مؤتمر مدريد» يطلق مفاعيله، ويُنجب نتائجه المدمِّرة: فُتِحت قناةٌ سرّية في أوسلو- موازية لمفاوضات واشنطن التي انطلقت بعد مدريد – وانتهت المفاوضات فيها إلى إنتاج «اتفاق أوسلو» (الذي وُقّع في حديقة البيت الأبيض في 13 أيلول 1993)، فيما انتهت المفاوضات الأردنية-«الإسرائيلية» إلى توقيع «اتفاق وادي عربة»، ليُسْدَل الستار على فصلٍ من الصراع العربي-الصهيوني امتدّ من خمسة وأربعين عاماً: منذ نكبة عام 1948.
في المحطة الثالثة، نجح الأمريكيون في الخَطْو خطوةً نحو وضْع الأساس للنظام الذي اعتزموا إقامته – على مقتضى هندستهم الكولونيالية الجديدة للوطن العربي- تحت عنوان «نظام الشرق الأوسط» مستفيدين، في ذلك، من النتائج التي حصدوها من «حرب الخليج الثانية» و«مؤتمر مدريد». هكذا أطلقوا فكرة عقد مؤتمرات دورية لِ«التنمية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» لتكون إطاراً لتوليد نظامٍ إقليمي«تعاوني»عربي-«إسرائيلي». وقد انعقدت منها مؤتمرات في الدار البيضاء والقاهرة والدوحة وعمّان، شاركت فيها وفودٌ حكومية وخاصة (رجال أعمال) وشركات ومؤسسات استثمارية من البلدان العربية وبلدان الإقليم. ولأول مرّة سيجد العرب أنفسهم يتباحثون مع «الإسرائيليين» – على طاولة واحدة – برامج «التعاون» والاستثمار «المتبادل»! وكان واضحاً من المشروع الأمريكي-الصهيوني لإقامة «النظام الشرق أوسطي»-الذي كشف عنه كتاب شمعون بيريز «الشرق الأوسط الجديد»-أنه يَهْدف إلى إعادة تشكيل المنطقة في نظامٍ إقليمي جديد تكون فيه «إسرائيل» هي المركز الذي يدير الأطراف والهوامش العربية، وتمحو فيه الرابطة الشرق أوسطية الرابطة العربية محواً نهائياً !
وكانت المحطة الرابعة أشد محطات تلك الهندسة الكولونيالية الأمريكية قسوةً وشراسةً على الإطلاق، وهي محطة غزو العراق واحتلاله (20 آذار 2003). ما كان هدف الاحتلال إسقاط نظامٍ فحسب، وإنما إسقاط الدولة أيضاً، فضلاً عن تحقيق حلم السطو على نِفْط العراق. وإذا كانت إيران قد قدّمت مساهمتها في التمكين لذينك الغزو والاحتلال، فإن أتباعها من العراقيين ومن جماعة أمريكا «كافحوا»، وما يزالون، منذ اشتراكهم في مؤسسات الاحتلال (مجلس الحكم الانتقالي) وحتى يوم الناس هذا، في التطبيق الدقيق لمشروع التفكيك الكياني لوطنِ”هم”. منذ اتخذت إدارة بوش والمحافظون الجدد قرار الحرب على العراق، في بداية هذا القرن، واتخذت من هجمات سبتمبر 2001 ذريعةً لذلك، كان واضحاً أنها ذاهبة إلى أكثر من عدوان عسكري: إلى تفتيتِ بلدٍ وتفكيكه؛ إذ لم يتوقف”أنبياء”تلك الإدارة (ريشارد بيرل، بول وولفويتيز، دونالد رومسفيلد) عن التبشير بعراقٍ جديد ينعم فيه الأكراد والشيعة بالحقوق التي اهتُضمت. وحين دخلت قواتهم العراق، بدأ حاكمهم «المدني» (بول بريمر)في تطبيق وصفة التفكيك بعد أن مهَّد لها المحتل بحلّ الجيش الوطني. ولقد قضت هذه الوصفة بإعادة تعريف الشعب العراقي تعريفاً طائفياً ومذهبياً وإثنياً: شيعة، وسنة، ومسيحيين، وكرداً! وبإعادة تقسيم السلطة على مقتضى ذلك التصنيف، وصولاً إلى تكريس الاحتصاص (المحاصصة) الطائفي والمذهبي والعرقي في”الدستور”والنظام. ولقد أطلق هذا المشروع، ولا يزال، حروباً مذهبية وموجات عنفٍ دموي، ومغامرات انفصالية (كردية)، على النحو الذي أذهَبَ البقية الباقية من روابط الوطن بين العراقيين.
أما المحطة الخامسة في مشروع الشرق الأوسط «الجديد فكانت الحرب» «الإسرائيلية» على لبنان في تموز-آب من عام 2006. الهدف المباشر كان سلاح المقاومة: آخر عقبة اعتراضية في وجه المشروع التفكيكي الأمريكي. وقد فضحت كوندوليزا رايس – وزيرة خارجية الولايات المتحدة آنذاك – المكنون الأبعدَ من الأهداف حين صرَّحت – معرِّفةً ما يجري من حرب – بأنها «مخاضٌ لولادة الشرق الأوسط الجديد»، قبل أن تَبْلَع تصريحها وأهداف دولتها حين تلقَّى العدوان الصهيوني الردّ الرادع لينكفئ مدحوراً من دون أن يبلُغ أيّاً من أهدافه السياسية المعلَنَة والمضمَرة.
*هذه، بإيجاز، المحطات الخمس التي مرَّ بها مشروع «الشرق الأوسط» الجديد، الأمريكي، في سنوات التسعينات والعقد الماضي، قبل أن يصطدم بحقيقة الامتناع. لكن هذا المشروع، الذي انكفأ، لم يَسْقُط تماماً، وإنما تراجع تكتيكيّاً متحيناً فرصة جديدة مناسِبة لمعاودة الظهور. ولعلّ ممّا شجَّعه على الاستمرار في محاولاته أن «نظرية» «الفوضى الخلاّقة»، التي أطلقها صقور المحافظين الجدد، أثمرت بعضَ ثمارها في العراق بعد الانسحاب العسكري الأمريكي منه، وبالتالي، شجَّع ذلك على الاستمرار في اختبار نجاعة السيناريو العراقي، في بلدٍ عربيّ آخر، بما هو السيناريو الأفعل لتهميش البُنى الداخلية، وتفجير تناقضاتها، والتمكين – بالتالي- لعملية تفكيك المجتمع والدولة.

عبدالإله بلقزيز

صحيفة الخليج