حتى لو تم تجنُّب اندلاع حرب أهلية أخرى في السودان، فإن تأخير الخرطوم في التوقيع على اتفاقية سلام مع إسرائيل قد وفر مجالاً لصعود الفصائل السياسية التي تعارض إقامة مزيد من العلاقات مع إسرائيل.
عندما اندلع القتال بين (أنصار) جنرالين متنافسين في السودان في وقت سابق من هذا الشهر، كان أحد تداعياته العديدة هو الإنهاء المحتمل للتفاهمات التي تم التوصل إليها مع إسرائيل. فسابقاً، كان البَلدان في طريقهما لتوقيع اتفاق سلام شامل في وقت لاحق من هذا العام في واشنطن، يليه تبادل السفراء وإبرام بروتوكولات للتعاون في مختلف المجالات، من تطوير الإمكانات الزراعية الهائلة للسودان وإلى الارتقاء بخدماتها الصحية وبدء العلاقات التجارية بين البلدين. ومثّلت هذه العملية تتويجاً للإعلانات والاتفاقات التي تم التوصل إليها في 2020-2021 بشأن التطبيع بين البلدين ومشاركة السودان في “اتفاقيات إبراهيم”. ولعبت الولايات المتحدة دوراً رئيسياً في تلك الجهود من خلال إلغائها تصنيف السودان كدولة راعية للإرهاب، ورفع العقوبات المرتبطة بها، وتقديم المساعدة المالية لها.
ووفقاً لمسؤولين إسرائيليين، تمت صياغة النص النهائي لاتفاق السلام قبل أشهر بمساهمةٍ من واشنطن، كما تمت الموافقة عليه بشكل غير رسمي خلال زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين للخرطوم في شباط/فبراير، على الرغم من امتناع السلطات السودانية عن تأكيد وصول المفاوضات إلى هذه المرحلة. على أي حال، استند التوقيع الرسمي إلى عدة خطوات أولية، هي: إتمام الوساطة الأمريكية والدولية بين الجيش والتحالف غير الوثيق للفصائل المعروف بإسم “قوى إعلان الحرية والتغيير” (“قحت”)، وتشكيل حكومة مدنية مؤقتة في الخرطوم، وإجراء انتخابات عامة يُتوقع بعدها انسحاب القوات المسلحة من المشهد السياسي ومصادقة برلمان جديد على الاتفاقية مع إسرائيل. ولطالما اعتبرت الولايات المتحدة أن تحقيق الديمقراطية في السودان يشكل هدفاً رئيسياً، وذلك جزئياً للمساعدة في تخفيف توترات الخرطوم مع الدول المجاورة وحماية الممر الحيوي للبحر الأحمر.
في 5 كانون الأول/ ديسمبر، تم التوصل إلى “اتفاق إطاري” لحل التوترات التي طال أمدها بين الجيش النظامي و”قوات الدعم السريع”، وهي قوة شبه عسكرية قوية انبثقت من سنوات من الصراع الدموي في دارفور وشاركت سابقاً مع الجيش في الإطاحة بالديكتاتور عمر البشير في عام 2019 وسط مظاهرات شعبية كبيرة. ويتصور هذا الإطار إنتقالاً لمدة عامين إلى الحُكم المدني ودمج “قوات الدعم السريع” في الجيش السوداني. ومع ذلك، أصر قائد “قوات الدعم السريع”، الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف أيضاً باسم “حميدتي”، على تمديد هذا الدمج إلى عشر سنوات، مما زاد من استياء قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، الذي يرأس “مجلس السيادة الانتقالي”.
وقد أدت هذه التوترات إلى اندلاع الأعمال العدائية في العاصمة ومختلف المدن والقواعد عبر المحافظات. وهناك فصائل إسلامية أعيد تكوينها التي تدعم الجيش وكانت قد شكلت أساس نظام البشير، بينما ترددت شائعات بأن “حميدتي” يحظى بدعم ضمني من نائبة رئيس “حزب الأمة القومي” مريم المهدي، التي يُشتبه بمحاولتها تفكيك الشراكة بين الجيش و”قوات الدعم السريع” على أمل تسريع نقل السلطة إلى تحالف مدني تتزعمه بنفسها. وفي الواقع، تحدّى حميدتي البرهان قبل وقت قصير من اندلاع القتال من خلال دعوته إلى الانتقال الفوري إلى الحكم المدني. كما أن العديد من قوات حميدتي هم من أتباع الحركة المهدية، التي يعود تاريخها إلى الدولة الإسلامية التي أسسها أحد أسلاف المهدي في السودان في أواخر القرن التاسع عشر.
ويجدر بالذكر أن الإسلاميين اتخذوا موقفاً واضحاً ضد السلام مع إسرائيل، كما فعل العديد من الأحزاب الأعضاء في “قوى إعلان الحرية والتغيير” (كالشيوعيين والبعثيين). وبالمثل، أعربت مهدي عن اعتراضها على التطبيع أثناء شغلها منصب وزيرة الخارجية في الحكومة المدنية قصيرة العمر برئاسة عبد الله حمدوك، والتي أقالها الجيش في تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
دور إسرائيل الحذر في السودان
كانت المقاربات الماضية والحالية التي اتبعتها إسرائيل تجاه السودان معقدة بسبب مجموعة من العوامل. فخلال حقبة التطبيع الحالية، فشلت السلطات الإسرائيلية في تنمية العلاقات مع الأطراف المدنية السودانية، بتركيزها كلياً على البرهان وضباط الصف تحت إمرته، وبدرجة أقل على “قوات الدعم السريع”. وخلال فترة حُكم ثلاث حكومات متعاقبة في القدس، لم يُبذَل أي جُهد جدي من أجل إظهار الفوائد المحتملة التي يحققها التطبيع للشعب السوداني. وسرعان ما تلاشت محاولة وحيدة لإقامة “جمعية الصداقة السودانية الإسرائيلية” في الخرطوم، ولم تحظ المساعدة الإنسانية التي أرسلتها منظمة غير حكومية إسرائيلية بأي دعاية. وزارت وفود مدنية سودانية إسرائيل، إلّا أن عدد تلك الرحلات الصامتة النادرة يتضاءل أمام عدد الوفود العسكرية رفيعة المستوى التي وصلت في مهمات شبه سرية لطلب المساعدة. وأدى هذا الخلل في التوازن إلى تفاقم المعارضة الواسعة للتطبيع بين النخب السياسية السودانية، حيث يؤمِن الكثير منها أن إسرائيل كانت توفر معلومات استخبارية وأدوات إلكترونية للجيش من أجل قمع الاحتجاجات الأخيرة.
وفي الواقع، دقّقت إسرائيل بهذه الطلبات العسكرية بعناية ورفضت الجزء الأكبر منها أو أرجأتها بالتشاور مع واشنطن، التي غالباً ما أعربت عن استيائها من الجنرالات السودانيين لتقاعسهم عن إقامة نظام برلماني. على سبيل المثال، عندما أرسل حميدتي شقيقه اللواء عبد الرحيم دقلو ومستشاره السياسي يوسف عزت لتقديم القوائم الطويلة لأمنياته في مناسبات متعددة، كان المسؤولون الإسرائيليون على ما يبدو غير مستعدين للعب أي دور في الصراع الداخلي في السودان – خاصة بالنظر إلى أن حميدتي اتُهم مراراً بإصدار أوامر بارتكاب مذابح في دارفور عندما كان يترأس ميليشيا “الجنجويد”. ونشرت وسائل الإعلام الممولة من قطر شائعات بأن الجنرال يتلقى مساعدة من “الموساد” الإسرائيلي، لكن مثل هذه الاتهامات قد تكون نتاج المنافسة طويلة الأمد بين الدوحة والإمارات العربية المتحدة، التي تربطها علاقات بحميدتي.
وتعتمد مقاربة إسرائيل الحذرة على الخبرة المكتسبة على مدى سبعة عقود من الانخراط المتقطع في السودان. ففي خمسينيات القرن الماضي، طلب الراحل الصادق المهدي (والد مريم) مساعدة إسرائيل في صراعه ضد جمال عبد الناصر في مصر. وفي ذلك العقد نفسه، تم إجراء اتصالات سرية مع رئيس الوزراء السوداني عبد الله خليل. وازدهر ذلك التواصل خلال فترة رئاسة الرئيس جعفر النميري في السبعينيات والثمانينيات، وإن كان بطريقة سرية تماماً. وتعاون النميري في جهود جلب اليهود الإثيوبيين إلى إسرائيل وسمح لـ “الموساد” الإسرائيلي الحفاظ على وجود له في الخرطوم. وتدهورت هذه العلاقة لاحقاً بعد تولي البشير السلطة، حيث اقترب من إيران بصورة أكثر، وبدأ في تسهيل شحنات الأسلحة إلى “حماس” في قطاع غزة، مما أدى إلى قيام إسرائيل بشن غارات جوية على المنشآت السودانية ذات الصلة بإرسال شحنات الأسلحة. لكن بحلول عام 2016، نأى البشير بنفسه عن طهران، واستؤنفت الاتصالات السرية مع إسرائيل. ويجدر بالذكر أن البرهان شغل منصب رئيس المخابرات العسكرية خلال تلك الفترة.
وفي الستينيات، بدأت إسرائيل أيضاً برنامجاً سرياً لتوفير المعدات العسكرية والتدريب والدعم الدبلوماسي للمتمردين في جنوب السودان في محاولتهم الانفصال عن الخرطوم. ومع ذلك، حالما حصلت جنوب السودان على الاستقلال في عام 2011، راقبت إسرائيل بخيبة أمل تدهور الدولة الجديدة إلى مستنقع من الحرب القبلية والفساد وسوء إدارة الموارد – وهو درس واقعي حول مخاطر متابعة المشاريع الطموحة في تلك البلاد.
وكان اهتمام إسرائيل بالسودان مدفوعاً جزئياً بالرغبة الطويلة الأمد لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في فتح خط رحلات مباشر إلى أمريكا اللاتينية من أجل تعزيز العلاقات الاقتصادية هناك. ولا يزال تصريح التحليق فوق سماء السودان، مُكمَلَّاً بترتيبات مماثلة مع تشاد ودول أخرى في الساحل، أحد الأهداف الأساسية للسياسة الخارجية لنتنياهو.
الخاتمة
يبدو أن التأخير الذي دام عامين ونصف في تحويل إعلان التطبيع إلى اتفاقية سلام موقَّعة عرّضَ العملية برمتها للخطر. وحتى لو شكّلتالسودان حكومة مدنية على المدى القريب، فقد يتبين أنها ستتردد في اختبار المزاج العام من خلال إبرامها معاهدة مع “العدو الصهيوني”، كما يشار إلى إسرائيل غالباً من قبل الصحافة المحلية ومعلقين على وسائل التواصل الاجتماعي والسياسيين. وإذا فاز البرهان في منافسته مع “حميدتي”، فقد يُقنعه حلفاؤه الإسلاميون بوقف التطبيع أو على الأقل إبطائه. وبالمثل، إذا تغلب حميدتي في الصراع القائم، سيتعين عليه أن يأخذ في الحسبان شعور “حزب الأمة القومي” والشركاء المحتملين الآخرين تجاه إسرائيل.
لذلك، قد يتطلب استمرار عضوية السودان في “اتفاقيات إبراهيم” إصرار الولايات المتحدة على وفاء الخرطوم بالتزاماتها وإكمال اتفاقية السلام – ربما حتى بتحذير البلاد بأنها ستفقد المزايا الأمريكية الممنوحة بالتزامن مع إعلان التطبيع الأولي. ولا تريد معظم الفصائل المدنية في السودان أن تفقد الدعم الأمريكي.
بإمكان البلدان الأخرى المساعدة في الحفاظ على العملية أيضاً. فالإمارات تتمتع بنفوذ كبير في الخرطوم، وكذلك مصر، التي تحتفظ بوجود عسكري محدود هناك وتتمتع بولاء “الحزب الاتحادي الديمقراطي”، أحد أكبر الفصائل في السودان، الذي أسسه الرئيس الراحل أحمد الميرغني. وبالمثل بإمكان المملكة العربية السعودية وتشاد المجاورة توجيه الحكومة المدنية القادمة بعيداً عن ترك مسار السلام الذي مهده الجنرالات.
إيهود يعاري
معهد واشنطن