السؤال الكبير: ماذا سيحدث للأسواق إذا فقد الدولار هيمنته

السؤال الكبير: ماذا سيحدث للأسواق إذا فقد الدولار هيمنته

لا ينبغي الخلط بين عمليات بيع الدولار والتغيرات في وضعه كعملة احتياطية”‏
‏- مارك تشاندلر، بانوكبورن غلوبال فوريكس
“حتى مع صعود القوى الاقتصادية العظمى وهبوطها، فإن وضع احتياطي عملاتها يميل إلى النجاة بعد ذروة نفوذها” ‏
‏- “يو بي إس”‏ للخدمات المصرفية
‏* * *
رموز مرجعية
موشر الدولار: -0.32 في المائة
‏اليورو مقابل الدولار الأميركي‏: +0.38 في المائة

هل أصبح “الملك دولار” معرضًا لخطر فقدان تاجه؟
‏ربما ليس بعد. لكن التراجع السريع للارتفاع الحاد في الدولار الأميركي في العام الماضي، إلى جانب الجهود المبذولة في بكين وخارجها لتخفيف الاعتماد على الدولار، ساعد على تنشيط التكهنات بأن هيمنة الدولار على التجارة والتمويل الدوليين ربما تتجه نحو الغروب.‏
في الآونة الأخيرة، تكثف الحديث عن “إلغاء الدولرة”، وانضم إليه محللو “وول ستريت”، الذين نشروا تقارير بحثية تتنبأ بمزيد من المنافسة للدولار في التجارة والاحتياطيات العالمية، إلى جانب تقييمات حول الاتجاه الذي يذهب إليه الدولار في الأشهر المقبلة، وكيف أن اعتماد ما يسمى بالعملات الرقمية للبنك المركزي قد يحدث خلخلة في الأوضاع.
وفي المقابل، من المؤكد أن العديد من استراتيجيي العملة والاقتصاديين عارضوا فكرة أن الدولار في أي مكان قريب من فقدان وضعه كعملة احتياطي، مستشهدين بهيمنته في التجارة العالمية ووضعه كأصل احتياطي يستخدم على نطاق واسع بين البنوك المركزية.
وكان الارتفاع الحاد الذي حققه الدولار في العام الماضي قد فاجأ العديد من استراتيجيي العملة، وكذلك فعل انعكاس وجهته إلى الهبوط على مدى الأشهر الستة الماضية.
‏بعد أن وصل إلى أفضل مستوى له منذ أكثر من عقدين في أواخر أيلول (سبتمبر)، انخفض مؤشر الدولار الأميركي‏، وهو مقياس للعملة مقابل سلة من ستة عملات منافسة، بأكثر من 10 في المائة‏‏. ووفقًا لشركة البيانات والبرمجيات المالية الأميركية “فاكت سِت”، سجل الدولار أدنى مستوى له على مقياس ‏‏اليورو مقابل الدولار الأميركي، ‏‏بنسبة 0.38 في المائة‏‏ في أكثر من عام مؤخرًا، مع وجود تداول العملة السائد عند حوالي 1.10 دولار.
‏ونتيجة لذلك، كان الدولار هو الأسوأ أداء في مجموعة العملات العشر الأكثر تداولًا (1) خلال الشهر الذي سبق كتابة هذه السطور، وفقًا لفريق من المحللين في شركة الخدمات المصرفية والمالية الهولندية متعددة الجنسيات، “رابوبانك”.
وأشار آلان روسكين، الخبير الاستراتيجي في الاقتصاد الكلي في “دويتشه بنك” الذي يغطي حركة العملات لسنوات، إلى أن الحديث عن إلغاء الدولرة أصبح يعود إلى الرواج بعد مرور أقل من عام على الذكرى الخمسين لانهيار “نظام بريتون وودز” النقدي. وفي عهد بريتون وودز، تولى الدولار الأميركي المدعوم بالذهب دورًا مركزيًا في الاقتصاد العالمي بعد الحرب. وانهار “نظام بريتون وودز” عندما أعلن الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، التخلي عن معيار الذهب في آب (أغسطس) 1971. لكنّ مكانة الدولار باعتباره العملة الاحتياطية العالمية التي لا غنى عنها ظلت قائمة.
بعد سنوات، ساعد أكثر من عقد من التيسير الكمي وأسعار الفائدة المنخفضة للغاية على تقويض هذه المصداقية التي تحققت بشق الأنفس، كما قال روسكين، مشيرًا إلى صعود العملات المشفرة مثل “البيتكوين” كعلامة على “الثورة” ضد الدولار. وضاعفت البنوك المركزية رهانانتها بعد ‏‏ظهور جائحة “كوفيد-19” في آذار (مارس) 2020‏‏، مما أدى إلى تحفيز التضخم، ومعه المزيد من الشكوك إزاء الدولار في الخارج.
‏وقال روسكين في مذكرة بحثية مقدمة لموقع مراقبة الأسواق “ماركت ووتش”، إن “طباعة النقود، مع استخراج عوائد سك العملة العلني وتداعيات التضخم، شجعت فقط أولئك في العالم النامي الذين يرغبون في إنشاء نظام عملة متعدد الأقطاب، والذي يكون أكثر انسجامًا مع حصتهم المتزايدة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي”. (يشير مفهوم عوائد سك العملة Seigniorage إلى الأرباح الخفية التي تجنيها الحكومات من إصدار العملات).‏
‏وقال محللون إن تحديًا جديدًا لاستقرار الدولار قد يلوح في الأفق بينما يستعد الكونغرس الأميركي لخوض مواجهة ‏‏قبيحة أخرى بشأن سقف الديون‏‏، في حين قال قادة العالم، بمن فيهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إنه يجب تقليل الاعتماد الدولي على الدولار.
مسيرة صاعدة تتفكك‏
‏ارتفع الدولار الأميركي بشكل حاد في العام 2022، مدعومًا ‏‏بقيام مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي برفع أسعار الفائدة بقوة‏‏ والتدافع من أجل الأمان، حيث بيعت بالتزامن الأسهم والسندات في الأسواق حول العالم. ‏والآن بعد أن قال بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إنه على وشك الانتهاء من رفع أسعار الفائدة، من المتوقع أن تقوم البنوك المركزية الأخرى، مثل البنك المركزي الأوروبي، بسد الفجوة بين أسعار الفائدة الأوروبية والأميركية.‏
الآن، يشرع الدولار في الاستعداد لـ”التكيف” مع الانخفاض في عوائد سندات الخزانة، التي انخفضت بشكل حاد خلال شهر آذار (مارس)، كما قال ستيف إنغلاندر، الرئيس العالمي لاستراتيجية العملات العشر الأكثر تداولًا في بنك “ستاندرد تشارترد”، في تقرير حديث للعملاء. ‏
‏وقال مارفن لوه، الخبير الاستراتيجي العالمي في “ستيت ستريت”، لموقع “ماركت ووتش”، في مقابلة عبر الهاتف، إن نماذج تعادل التسعير في شركة “ستيت ستريت” القابضة للخدمات المصرفية والمالية، تظهر أن الدولار ما يزال مرتفع القيمة للغاية. وأضاف لوه: “إذا انتهى بنك الاحتياطي الفيدرالي حقًا من رفع أسعار الفائدة، فإنك قد تستمر في رؤية الدولار يضعف حتى نهاية العام”.‏
بطبيعة الحال، لا ينبغي الخلط بين عمليات بيع الدولار والتغيرات في وضعه كعملة احتياطية، كما قال مارك تشاندلر، العضو المنتدب في شركة استشارات الأسواق الرأسمالية المتخصصة في استشارات العملات “بانوكبورن غلوبال فوريكس”.
‏اتجاهات متغيرة‏
‏إذا نحينا جانبًا حركة الدولار صعودًا وهبوطًا، فإنه يظل العملة الأكثر شعبية لكل من المدفوعات الدولية واحتياطيات البنوك المركزية العالمية، وهو ما يعزز مكانته باعتباره العملة الاحتياطية الدولية بلا منازع. لكنَّ قبضته على الاقتصاد العالمي ضعفت إلى حد ما على مدى العقود القليلة الماضية.
شكل الدولار 58.4 في المائة من احتياطيات النقد الأجنبي للبنوك المركزية خلال الربع الرابع من العام الماضي، بانخفاض عن حوالي 70 في المائة في أواخر تسعينيات القرن العشرين عندما تم إطلاق اليورو لأول مرة، وفقا لأحدث البيانات المتاحة من صندوق النقد الدولي. ‏‏وتحتفظ البنوك المركزية بالعملات الأجنبية لعدد من الأسباب، وفقًا للمنتدى الاقتصادي العالمي، بما فيها درء الأزمات والمساعدة على تسهيل التجارة الدولية.
لكن شعبية الدولار في جميع أنحاء العالم كعملة تُستخدم لتسوية المعاملات الدولية بالكاد تزحزحت في السنوات الأخيرة، حتى لو أنها انخفضت قليلاً ‏‏منذ انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية‏‏ في العام 2001.‏
‏وتظهر أحدث البيانات أن الدولار الأميركي يستخدم لتسوية ما يزيد قليلاً على 40 في المائة من التجارة الدولية، مما يجعله متقدمًا على اليورو مباشرة، وفقًا لجمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك، أو “سويفت” SWIFT، التي تستخدمها البنوك في جميع أنحاء العالم لتسهيل تدفق الأموال عبر الاقتصاد العالمي.
‏أظهر التاريخ أن الأمر غالبًا ما يستغرق عقودًا، إن لم يكن قرونًا، حتى يتلاشى وضع عملة ما كعملة الاحتياطي العالمي. في كثير من الأحيان، يظل هذا الوضع قائمًا حتى بعد أن تكون القوة الاقتصادية للبلد المضيف ومكانته قد بلغت ذروتها، وفقًا لسوليتا مارسيلي من مجموعة الاستشارات المالية “يو بي أس” UBS ومديرها التنفيذي، أليخو تشيرونكو، اللذين استكشفا التوقعات طويلة الأجل لدور الدولار في النظام المالي في مذكرة حديثة للعملاء.
كان الدولار قد اغتصب مكانة الجنيه الإسترليني البريطاني كعملة احتياطية عالمية مفضلة منذ ما يقرب من 100 عام، في منتصف عشرينيات القرن العشرين، وفقًا لورقة من المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية. وقبل الجنيه الإسترليني، سيطر الغيلدر الهولندي والغاليون الإسباني على التجارة التي كانت تشمل الدول الأوروبية ومستعمراتها.‏
‏يقول فريق “يو بي إس”: “حتى مع صعود القوى الاقتصادية العظمى وهبوطها، فإن وضع احتياطي عملاتها يميل إلى البقاء حتى بعد ذروة نفوذها”. وكان الحديث عن تجاوز الرنمينبي الصيني للدولار متداولاً بكثرة لسنوات. ومع ذلك، لم تحرز العملة الصينية تقدمًا يذكر في زيادة استخدامها في التجارة الدولية. وقد ازداد استخدامه في الاحتياطيات الأجنبية بشكل طفيف منذ أن أضافه صندوق النقد الدولي إلى سلة حقوق السحب الخاصة في أواخر العام 2016.
‏في الصين، يحتفظ البنك المركزي الصيني الذي تسيطر عليه الحكومة بقبضة محكمة على اليوان. وعلى الرغم من أن العملة يتم تداولها في المراكز الخارجية، إلا أنه لا يمكن أن تحل بسهولة محل العملات الأجنبية الأخرى. وقال محللون إن هذه العقبات ما يزال يستشهد بها على نطاق واسع لدى مناقشة استخدامها في إدارة التجارة الدولية. ‏
‏كما يلاحظ براد ماكميلان، كبير مسؤولي الاستثمار في شبكة الكومنولث المالية، فإن “الذي يقوم بتحديد سعر صرف اليوان هو الحكومة الصينية، وليس السوق”.
‏ومن الجدير ملاحظة أن قيام البنوك المركزية بشراء الذهب قد ارتفع خلال العام الماضي، ‏‏بعد قيام روسيا بغزو أوكرانيا في شباط (فبراير) 2022‏‏. وقد اشترت البنوك المركزية 1.136 طنًا متريًا من الذهب في العام 2022، وهو أكبر رقم مسجل منذ العام 1950 على الأقل، مع شراء كثيف من البنوك المركزية في روسيا والصين والشرق الأوسط والهند.
‏وقال فريق “يو بي أس” إنه يتوقع أن يمثل الذهب حصة أكبر من الاحتياطيات في السنوات المقبلة.‏
‏”تينا”‏
‏عندما يتعلق الأمر بالتجارة الدولية، يبقى الدولار الأميركي هو الملك بلا منازع. وقال محللون إنه بخلاف اليورو ‏‏الذي لعب الدور الثاني منذ إطلاقه، فإنها‏‏ لا توجد عملات تضاهي الدولار من حيث السيولة وسهولة التحويل والمصداقية. واستشهد روسكين، من “دويتشه بنك” بقائمة طويلة من العوامل المطلوبة التي يجب أن تتوفر لعملة أخرى حتى تنافس الدولار. وشملت هذه العوامل: وجود اقتصاد مفتوح على اتجاهات المد والجزر في التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي، وسوق سندات سائلة مفتوحة للمشاركة الأجنبية، وقبول سعر الصرف الذي يحدده السوق، والثقة في سيادة القانون، والحوكمة السياسية والتنظيم المالي. ‏ومن الصعب العثور على عملة أخرى تلبي كل هذه المتطلبات.‏
أثناء وصفه لوضع الدولار، استخدم تشاندلر، من “بانوكبورن” الاختصار “تينا “TINA” للتعبير عن معنى “لا يوجد بديل”.‏ وقال تشاندلر: “لا توجد أي خيارات أخرى في الوقت الحالي”.‏

الغد