غياب مراقبين دوليين وتقارب موازين القوى بين أطراف الصراع في السودان يحولان دون احترام وقف إطلاق النار المعلن عنه مرارا منذ بدء القتال قبل نحو ثلاثة أسابيع.
الخرطوم – دخلت هدنة خامسة لوقف إطلاق النار حيز التنفيذ بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لمدة ثلاثة أيام، ولا أحد يضمن صمودها في ظل إصرار الطرفين على عدم توقف قتال بلغ أسبوعه الثالث اليوم السبت، ووسط شعور كليهما بأن النصر سيكون حليفه.
وشهدت الهدنات الأربع السابقة خروقات عديدة من الجانبين، ومناشدات مختلفة من قبل قوى إقليمية ودولية تنادي بضرورة التهدئة ووقف إطلاق النار تمهيدا للشروع في مفاوضات، غير أن سير المعارك أكد أن كل الهدنات ستبقى على صفيح ساخن، طالما استمر التوازن النسبي في الميدان، حيث يملك كل طرف أوراق قوة تمكنه من الضغط على الآخر.
يقول متابعون إن عدم الالتزام الكامل بأي هدنة من الهدنات السابقة واللاحقة يرجع إلى غرور القوة الذي يسيطر على كل طرف، إذ يعتقد كلاهما أنه قاب قوسين أو أدنى من تحقيق تفوق ميداني على الخصم، خاصة أن الجيش فوجئ بأن قوات الدعم السريع تقاتل بشراسة وتصمد أمام قذائف الطائرات وتتمركز في أماكن حيوية بالخرطوم.
ويضيف هؤلاء المتابعون أن غياب الرقابة الإقليمية والدولية على الأرض يسمح بتكرار حدوث خروقات للهدنات المعلنة، فلا توجد جهة تستطيع تحديد من الذي يقوم بالخرق، ومعرفة الطرف المعتدي والمعتدى عليه، لأن هذه المسألة تحتاج إلى قرار من مجلس الأمن الدولي أو الاتحاد الأفريقي أو الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا (إيغاد)، والأطراف الثلاثة تخضع لحسابات دقيقة للقوى المهيمنة عليها.
هذا فضلا عن أن الرقابة الميدانية أو إرسال قوات حفظ سلام إلى هناك يتطلبان وقفا طويلا لإطلاق النار، لأن اللجوء إلى مدد قصيرة (ساعات أو أيام) غالبا ما يخضع لأسباب إنسانية، وهو ما حدث في المرات السابقة، حيث مارست قوى دولية عديدة ضغوطا على الطرفين لتثبيت الهدنة نسبيا كي تتمكن من إجلاء بعثاتها الدبلوماسية ورعاياها من السودان.
ولم يتطرق مجلس الأمن أو أي من الآليتين الأفريقيتين حتى الآن إلى هدنة طويلة بين قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) وتنصب الجهود الراهنة على التوصل إلى تهدئة وقتية تمهد الطريق لجلوسهما إلى طاولة المفاوضات أو جلوس من يمثلهما.
وقد تزداد المطالب لإطالة أمد الهدنات مع ازدياد أعداد الضحايا والنقص الحاد في الغذاء والدواء وصعوبة التنقل داخل العاصمة المثلثة المكونة من الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري، فضلا عن اشتعال المعارك في دارفور، ما يحرج الحركات المسلحة التي سعت إلى التزام الحياد بين الطرفين منذ اندلاع القتال، وأصبحت الحاضر الغائب في الصراع.
ورحبت الآلية الثلاثية المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وإيغاد ودول الرباعية المشكلة من الولايات المتحدة وبريطانيا والإمارات والسعودية، بتمديد وقف إطلاق النار لمدة 72 ساعة. وعبّرت الإدارة الأميركية الخميس عن قلقها البالغ إزاء الانتهاكات المتكررة لوقف إطلاق النار وحذرت من أن تردي الوضع قد يتفاقم في أي لحظة.
وقال المحلل السياسي السوداني محمد تورشين إن عدم صمود الهدنات يرجع إلى غياب الإرادة السياسية لدى الطرفين للوصول إلى التهدئة، وكلاهما يصر على الحسم العسكري، وما جرى فرضه من هدنات هشة جاء بضغوط غربية، فرضتها الولايات المتحدة، وحاول كل طرف توظيفها في محاولات الحصول على المزيد من الإمدادات والمؤن.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن “نجاح أي هدنة والتمهيد للجلوس إلى طاولة المفاوضات يحتاجان إلى شرطين، الأول: وجود طرف منتصر حقق مكاسب ويحاول تعزيزها من خلال اتفاق سياسي نهائي، والثاني: طرف تلقى خسائر فادحة وليس لديه ما يخسره ليقرر اللجوء إلى التهدئة بحثا عن مكاسب قد تحسّن وضعه، والشرطان غير متوفّرين في السودان حاليا”. وأوضح شهود أن ضربات جوية ونيران دبابات ومدفعية هزت الخرطوم الجمعة، وتعرضت مدينة الخرطوم بحري لقصف عنيف، في إشارة واضحة إلى خرق وقف النار.
واتهمت قوات الدعم السريع الجيش بانتهاك اتفاق الهدنة الذي توسطت فيه الولايات المتحدة والسعودية من خلال شن هجمات جوية على قواعدها في أم درمان الواقعة على الضفة الأخرى من نهر النيل وجبل الأولياء، في حين اتهم الجيش السوداني الدعم السريع بإطلاق النار على طائرة إجلاء تركية أثناء هبوطها في مطار وادي سيدنا خارج الخرطوم صباح الجمعة، وهو ما نفته قوات الدعم السريع وألقت بالمسؤولية كاملة على عاتق الجيش.
وأدى اندلاع أعمال عنف بين قبيلة المساليت المنحدرة من أصل أفريقي وجماعات من أصل عربي في ولاية غرب دارفور، إلى زيادة المخاوف من نقل جزء كبير من مسرح المعركة إلى غرب السودان، وهي منطقة نفوذ تقليدي لقوات الدعم السريع، ما يمكن أن يشتت انتباه الجيش الذي يركز على إحكام سيطرته على الخرطوم.
◙ دخول فلول النظام السابق وقياديّين من الحركة الإسلامية على خط الصراع لصالح الجيش يمنح خطاب حميدتي مصداقية عالية
وأظهرت قوات الدعم السريع مرونة كبيرة في التعاطي مع مواقف إقليمية ودولية متنوعة وأبدت التزاما بوقف إطلاق النار، لأن معركتها مع الجيش تصب في صالح المجتمع السوداني، حيث كل ما تريده كف دور الجيش عن التدخل في السياسة.
ويحاول الجيش ملاحقة خطاب الدعم السريع السياسي والإعلامي، إلا أن ظهور بعض التناقضات في مواقفه ألمح إلى وجود ارتباك في صفوف قياديّيه، سواء بشأن موقفه من الهدنات السابقة أو بخصوص التعاطي مع مبادرة دولة جنوب السودان لجلوس البرهان وحميدتي إلى طاولة الحوار في جوبا قريبا، وتعددت البيانات التي استُشف منها وجود ارتباك في صفوف الجيش.
وشدد محمد تورشين لـ”العرب” على أن “كل طرف لديه أنصار وداعمون في الداخل والخارج، ولديه رغبة في استمرار الصراع أطول فترة ممكنة للحفاظ على مصالحه”، مشيراً إلى أن القوى السياسية غير الراضية عن العملية السياسية أو الاتفاق الإطاري ليس من مصلحتها العودة إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل نشوب الصراع، كما أن حزب المؤتمر الوطني لديه مصالح لا يمكن تجاهلها وهو طرف مؤثر في توجيه دفة الصراع الدائر.
ومن المتوقع أن يزيد الارتباك في صفوف الجيش عقب هروب القيادي السابق بحزب المؤتمر الوطني المنحل أحمد هارون من سجن كوبر وإعلانه الانحياز للبرهان.
ومنح دخول فلول النظام السابق وقياديين من الحركة الإسلامية السودانية على خط الصراع لصالح الجيش مصداقية عالية لخطاب حميدتي الذي حذر سابقا من مساعيهم للقفز على السلطة مرة أخرى من خلال عناصرهم المتمرسة في الجيش.
العرب