لتزايد نفوذ أذربيجان الاقتصادي وقوتها، ولإدراك إيران لذلك، فإنها تتخذ الإجراءات لضمان بقاء التوترات في مصلحتها.
* * *
بدأت التوترات بين إيران وأذربيجان بالتصاعد منذ كانون الثاني (يناير) ووصلت إلى نقطة الغليان في أواخر آذار (مارس) عندما اغتيل أحد أعضاء البرلمان رميًا بالرصاص بالقرب من منزله في باكو. تشير وسائل الإعلام في أذربيجان وإسرائيل والولايات المتحدة بأصابع الاتهام إلى إيران، ونشرت الصحف الأذربيجانية أسماء أربعة مشتبه بهم يُزعم أنهم يعملون لصالح إيران. ووفقًا لموقع “توران نيوز”، فقد زار الأربعة إيران في السنوات القليلة الماضية، علمًا أن أحدهم هو ناشط ديني ينشر مقاطع فيديو على يوتيوب منذ فترة معينة. وتشير وسائل إعلام أميركية إلى أن الهجوم على النائب الأذربيجاني فاضل مصطفى تزامن مع زيارة مقررة لوزير الخارجية الأذربيجاني إلى إسرائيل لافتتاح السفارة الأذربيجانية في القدس.
ارتكزت علاقات أذربيجان المتنامية مع إسرائيل على حاجتها الماسة إلى حماية ذاتها. فالبلاد تقع في منطقة يندر فيها الأصدقاء وتكثر فيها الموارد الطبيعية، لاسيما النفط والغاز. أعيد تأسيس أذربيجان العام 1991 على أنقاض الاتحاد السوفييتي، وتحولت من بلد فقير إلى بلد استفاد بصبر من قطاع النفط والغاز لديه على مدى ثلاثة عقود. وبفضل خط الأنابيب إلى أوروبا الذي أنشأته أذربيجان، درّ ممر الغاز الجنوبي عليها بالدولارات النفطية الأوروبية.
يدرك الأذربيجانيون جيدًا أن الفقر وعدم القدرة على الدفاع عن النفس أفضل من الغنى وعدم القدرة على الدفاع عن النفس. إلى جانب نجاحاتهم الاقتصادية، فقد عاشوا تحت سيطرة جارتهم الجنوبية، الجمهورية الإسلامية، التي تريد حصة لها من الازدهار الاقتصادي في باكو. وسعت إيران إلى الانخراط في قطاع النفط والغاز ومشاريع البناء في باكو لصالح الحرس الثوري الإيراني. وردًا على ذلك، لجأت أذربيجان إلى إسرائيل وتركيا والولايات المتحدة، وبدرجة أقل حلف شمال الأطلسي، وهي كلها جهات تكنّ لها الجمهورية الإسلامية عداءً شديدًا. وقد أبدى النظام في إيران رغبة ونجاحًا متزايدين في التأثير على منطقة القوقاز، حيث تلتقي المصالح الروسية والإيرانية.
تُعد أذربيجان شوكة في خاصرة إيران وروسيا اللتين خسرتا سوقهما النفطية في أوروبا. يصدّر الأذربيجانيون النفط عبر خط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان الذي يمر عبر جورجيا (التي خسرت ما يقارب 25 % من أراضيها بعد أن استولت عليها روسيا العام 2008 وليست عضوًا في الناتو) إلى تركيا التي لديها أيضًا مصالح ومطالب في القوقاز (وهي عضو في الناتو)، ومن هناك إلى أوروبا. لا يمكن لروسيا وإيران الوصول إلى سوق النفط والغاز الأوروبية، ولكن أذربيجان ستستمر بشكل متزايد بتصدير النفط إلى خصوم روسيا وتوسيع تحالفها مع تركيا وإسرائيل، وسيتم استبعاد إيران.
تجد أذربيجان ذاتها في وضع دقيق لناحية تعاملها مع روسيا التي تملك خيارات متعددة لاحتواء البلاد أو الضغط عليها. وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا، أوقفت أذربيجان فجأة تصدير الغاز والنفط من محطتي أنابيب في البحر الأسود، وعزت السبب إلى “مخاوف أمنية”. كما تساعد روسيا بشكل متزايد أرمينيا عن طريق تزويدها بالأسلحة والدعم الاقتصادي، ما قد يعقد الأمور بالنسبة إلى باكو. ولكن التهديد الفعلي هو ما تتلقاه إيران من روسيا مقابل تزويدها بالأسلحة والطائرات بدون طيار. فإذا تمت صفقة بيع الطائرات المقاتلة من نوع “سو-35” التي أعلنت عنها إيران، فقد تمكنها طائرات الجيل الخامس هذه من التقدم على أذربيجان التي تمتلك بضع عشرات من الطائرات الروسية القديمة من الجيلين الثاني والثالث. فقوتها الجوية القديمة والعدد المحدود من طائرات بيرقدار التركية الصنع الذي تملكه لا يكفيان لردع إيران. كما تفتقر أذربيجان إلى الإنجازات العسكرية الكبرى وهي عرضة للتأثر بالأجهزة الدينية والاستخباراتية الإيرانية.
سعت إيران أيضًا إلى ممارسة الضغط من خلال دعم خصوم أذربيجان. من المفارقات أنه على الرغم من أوجه التشابه الكبيرة بين إيران وأذربيجان من حيث التاريخ والدين والتكوين العرقي، فقد أبدت الجمهورية الإسلامية اهتمامًا أكبر بدعم أرمينيا، وهي دولة مسيحية قاتلت المسلمين الشيعة من أذربيجان في حربين دمويتين. وبخلاف الأذر، الذين لطالما شكلوا جزءًا من الإمبراطورية الفارسية إلى حين تشكيل إيران الحديثة، أرغم الشاه عباس الأرمن الإيرانيين على الهجرة من أرمينيا إلى مدن إيران الجنوبية، وتحديدًا أصفهان وتبريز، في القرن السابع عشر.
لا يشمل هذا الاهتمام الأرمن داخل إيران الذين يقتصر تمثيلهم في الجمهورية الإسلامية على منصب واحد ينتخبه المجتمع الأرمني في نسخة الجمهورية الإسلامية من “الانتخابات”، ولا يملكون سوى سلطة محدودة جدًا في البرلمان (المجلس). وفي المقابل، يتمتع الأذر الإيرانيون بتمثيل أقوى بكثير في المجلس وصفوف الحرس الثوري الإيراني السيئ السمعة وبدعم الأعضاء الأذر في المؤسسة الدينية الإيرانية، التي لا مكان فيها بطبيعة الحال لرجال الدين الأرمن.
ولكن أرمينيا تتمتع بموقع استراتيجي، إذ تشترك في الحدود وهي في حالة حرب مع أذربيجان التي تكاد لا تملك أي منفذ بحري، بحيث لا تمتلك موانئ سوى على طول بحر قزوين، ما يسهل على إيران الضغط على أذربيجان. كما تساعد أرمينيا إيران على الانخراط في التجارة المربحة بين الهند وروسيا مقابل حصولها على الدعم العسكري والاقتصادي الإيراني.
تشير التقارير الواردة من الهند في أوائل شهر آذار (مارس) إلى أن وزير الخارجية الأرميني أرارات ميرزويان اقترح خلال زيارته للهند مسارًا يربط بين إيران وأرمينيا والبحر الأسود كبديل لممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC)، على أن يبدأ من الهند في الجنوب ويمر عبر إيران ليصل إلى روسيا في الشمال، ولكن من دون المرور بأذربيجان. إذا اختارت الهند هذا المسار التجاري، فستصبح مشاركة أذربيجان فيه أكثر تعقيدًا. وعلى الرغم من أن العلاقة بين نيودلهي وباكو تتسم بالفتور، فقد أبدت الهند اهتمامًا متزايدًا بالحفاظ على روسيا كأحد شركائها التجاريين الرئيسيين. وهذه هي النقطة التي يمكن للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الاستفادة منها، من خلال الضغط على الهند لتكف عن دعم محاولات إيران عزل أذربيجان.
في كلتا الحالتين، من المرجح أن تستمر طهران في البحث عن وسائل للضغط على باكو، حيث تشعر الجمهورية الإسلامية بالقلق من الوجود المتزايد للإسرائيليين في أذربيجان، إلا أنها تقلق أكثر من النمو الاقتصادي لدولة علمانية ذات أغلبية شيعية تشاركها الحدود. يكره النظام الإسلامي في إيران صورة أذربيجان المتعاظمة كدولة أكثر ثراءً من إيران، وتحديدًا لأن إيران تضم ما بين 12 و15 مليون أذري، وأخذت نواقيس الخطر تدق في طهران منذ العام 2006، عندما بدأ خط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان بتصدير النفط الأذربيجاني إلى أوروبا. صحيح أن الأذر الإيرانيين أكثر تمثيلًا بالمقارنة مع المجموعات العرقية الأخرى، ولكنهم لا يشعرون أنهم من بين المفضلين في جمهورية إيران الإسلامية.
بدلاً من ذلك، حذر النظام من قوتهم الجماعية، ففي أيار (مايو) 2006، نشرت وكالة الأنباء الرسمية للجمهورية الإسلامية رسمًا كاريكاتيريًا في طبعة الأطفال من مجلتها الأسبوعية، ولد رد فعل عنيفا في محافظة أذربيجان الإيرانية لدرجة أنه صدم النظام. وكان رد النظام غير متوقع آنذاك، إذ سارع إلى الاعتذار بدلًا من استخدام القوة، وسمح ببث الاحتجاجات على التلفزيون الوطني. وأثارت احتجاجات العام 2006 الكثير من ردود الفعل الغاضبة ضد النظام في إيران، وتزايدت الدعوات للانفصال، ما كسر الكثير من المحرمات بشأن تحدي سلطة النظام. فالأذر الإيرانيون يتشاركون التطلعات نحو الحرية والعدالة مع جميع الأقليات الأخرى المضطهدة في جمهورية إيران الإسلامية. تجدر الإشارة إلى أن محافظة أذربيجان الإيرانية غنية بالموارد الطبيعية والبشرية مثل أذربيجان. ولكن الفرق هو أن جمهورية أذربيجان مدعومة بالرأسمالية، والملالي لا يريدون أن يهزمهم “الغزو الغربي”.
شهدت ظهران على تحول باكو من واحدة من مدن بحر قزوين إلى أغنى هذه المدن، مع ما تضمه من ناطحات سحاب مطلة على البحر واستثمارات أوروبية وحضور قوي للعلامات التجارية الفاخرة وحلبة سباق فورمولا 1. وتتجلى القدرة الشرائية المتزايدة للمواطن الأذربيجاني العادي في نصيب الفرد من دخل الأسرة ومبيعات التجزئة، ما يذكر الإيرانيين العاديين، سواء أكانوا فارسيين أم أذرا، بواقع أن اقتصاد الجمهورية الإسلامية الفاشل يُعزى في الغالب إلى سوء إدارة دكتاتورية ثيوقراطية وليس علمانية.
يشتم الحرس الثوري الإيراني رائحة الأرباح المادية ويريد حصة منها. ويُعد الاغتيال الأخير مؤشرًا على أن طهران ستستمر في تصعيد التوترات بدون مواجهة عسكرية. من خلال مواصلة الضغط على جمهورية أذربيجان، تضرب إيران عصفورين بحجر واحد عبر تذكير الأذر على جانبي الحدود الإيرانية بأنه إذا عانت الجمهورية الإسلامية، فسيعانون هم أيضًا.
معهد واشنطن