تختصر كلمة “نازح” رحلة ناهز عمرها عقداً من الزمن، حينما اندلع الصراع المسلح في سوريا وطحنت المعارك أرجاء البلاد ودفعت أناسها إلى الهجرة، وبين إحدى خيام منطقة عرسال اللبنانية القريبة من الحدود السورية، يجلس رجب رحمو الملقب “أبو جمعة” وهو نازح من ريف إدلب، شمال غربي سوريا، يحكي لأحفاده عن جمال ربيع بلدته التي تكثر بها أشجار الكرز والتوت، بينما يعد الأيام لكي يقبل تراب قريته مجدداً.
على مضض يحاول “أبو جمعة” في حديثه أن يخفي حزناً تملك قلبه بعد أن فارق بيته الريفي وأراضي الزيتون والجوز، ويقول “أراضينا ما زالت تشهد معارك شرسة تدور رحاها في ريف الشمال السوري، وإن عدنا إلى مناطق ومدن مستقرة الآن، فلن تكفينا أموالنا القليلة للعيش مدة أسبوع، فلا مخيمات أو بيوت نقطنها مجاناً حتى تستقر الأوضاع الأمنية في بلدتنا الحدودية مع تركيا، فالحياة الاقتصادية والمعيشية صعبة، لقد فقدنا أراضينا وآلياتنا وأموالنا وكل العقارات، ولا توجد فرص للعمل لنا، إننا حائرون كيف سنعود ونعيش؟”.
الطير يرقص موجوعاً
تتسع دائرة المطالبة بعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، إذ نادت قوى ومنظمات سياسية محلية في لبنان إلى التعجيل بترحيلهم، في المقابل عارض ناشطون من البلدين هذا الزخم الواسع الذي يدفع النازحين إلى عودة قسرية، في حين أطلقت وزارة الداخلية اللبنانية حملة وطنية لتعداد النازحين وتسجيلهم بغية ضبط عملهم وإحصاء الموجودين بصورة غير قانونية، وجاء ذلك في كتاب موجه من قبل وزير الداخلية والبلدات بسام المولوي إلى المحافظين بعدم تنظيم أية معاملات، أو استئجار عقار لأي نازح سوري قبل التثبت من تسجيله لدى البلدية وحيازته إقامة شرعية.
كذلك أعلن وزير الشؤون الاجتماعية اللبناني هكتور حجار الأربعاء الماضي إسقاط صفة النازح عن كل سوري يغادر الأراضي اللبنانية، واستهدف القرار بشكل خاص النازحين الذين يتوجهون دورياً إلى سوريا ثم يعودون للبنان بغرض تلقي مساعدات دولية.
يقول جبران ماضي، أحد السوريين المقيمين في لبنان ويعمل بصفة تاجر، إنه “بالفعل بات الأمر مكشوفاً فمنذ أعوام يحاول السوريون المسجلون بصفة لاجئين الانتقال إلى مناطقهم التي شهدت استقراراً أمنياً والعودة مجدداً للبنان للحصول على المساعدة المخصصة لهم”.
وتابع “لا بد من أن يعي الفريق اللبناني الذي يحاول الإصرار على عودة السوريين أن الأمر بحاجة إلى دراسة واسعة، فليس كل الوافدين من سوريا زمن الاقتتال الأهلي عام 2011 كانوا عبئاً على الشعب والحكومة اللبنانيين، إذ هناك شريحة واسعة من الصناعيين والحرفيين والتجار تدفقوا إلى لبنان والأردن وتركيا وجاؤوا برؤوس أموال ومصانع وورش عمل وودائع بملايين الدولارات”.
مرارة العيش
في غضون ذلك كشف محافظ بعلبك (الهرمل) بشير خضر عن تسجيل 340 نازحاً خلال يومين في عرسال لدى الأمن اللبناني من أجل العودة لسوريا، ليرتفع العدد إلى 500 نازح وفق تغريدة له على حسابه في “تويتر”.
يأتي كل ذلك وسط طلب الحكومة اللبنانية من الأجهزة الأمنية ملاحقة المخالفين الذين يصلون بطرق غير شرعية مستفيدين من تداخل الأراضي بين البلدين، وصعوبة ضبط الطرق الوعرة في الجبال والسهول كسبيل للتهريب واستخدامها كمعابر غير نظامية، ووردت معلومات تفيد بطلب وزارة العدل بحث إمكانية تسليم الموقوفين والمحكومين إلى الدولة السورية بشكل فوري مع مراعاة القوانين، بينما تزدحم مراكز التوقيف بالموقوفين السوريين مع تزايد عدد المداهمات.
إزاء ذلك يشير الناشط ومؤسس مبادرة “منتدى الأمل السوري” في لبنان قصي دالي إلى حاجات اللاجئين السوريين ومطالبهم، وتتصدرها العودة الآمنة لديارهم، ويقول لـ”اندبندنت عربية” إن محفزات العودة تأتي حين تضع الحرب أوزارها ويتحقق الاستقرار والأمن الدائم في مناطقهم.
ويضيف، “هناك حاجة إلى ضمانات لأمنهم الشخصي وحماية حقوقهم وحرياتهم الأساسية من التعرض للاضطهاد والتمييز، بما في ذلك حماية حقوقهم المدنية والسياسية والاجتماعية، إضافة إلى توفير بنية تحتية صحية وآمنة مثل المياه والكهرباء والصرف الصحي والرعاية الصحية والتعليم والوظائف بشكل متساو وعادل”.
معوقات العودة
ومع دخول عدد من الأراضي السورية في حال من الاستقرار الأمني الكلي والجزئي فباتت قابلة للسكن بعد انتهاء المعارك بها في ريف إدلب الجنوبي، إلا أن جولة في مدن كمعرة النعمان بالتزامن مع إطلاق الحكومة دعوة لعودة الأهالي إليها، تكشف عن تدني مستوى تدفق العودة من قبل كثير من أهالي المدينة الريفية الذين يقطنون في لبنان.
أحد العائدين من لبنان، فضل أن يطلق على نفسه اسم “أبو الخير”، عبر عن صدمته من حجم الدمار وأبدى بعض الندم على العودة، لكنه قال “في النهاية لا بد من أن نعود لأرضنا وبيتنا، نحتاج إلى عشرات ملايين الليرات لترميم ما دمرته الحرب، ونطلب أن يصل صوتنا بتسخير مكافأة نقدية مجزية للعائدين من اللاجئين السوريين إلى البلد، عوضاً عن إعطاء ذلك على شكل معونات، ولتكن تعويضاً يساوي المساعدات الممنوحة لعام كامل أو عامين لكل نازح، وهذا ما سيحفز على تسريع انتقال الناس إلى أراضيهم ويمنحهم فرصة للعمل وإعادة إعمار بيوتهم”.
هناك معوقات عدة تحول دون عودة اللاجئين في لبنان لديارهم بسوريا منها شعورهم بالقلق من تعرضهم للاضطهاد والتمييز والاعتقال عند العودة أو إجبارهم على أداء الخدمة العسكرية، بحسب وصف قصي دالي الذي يعتقد بأن ذلك يحدث في ظل غياب الضمانات القانونية والحقوقية في البلاد.
يقول دالي، “من الصعوبات أيضاً نقص الخدمات الأساسية، بالتالي سيواجه العائدون صعوبة في الحصول على مستوى معيشي لائق ومستقر، كما أن بعضهم ربما يخشى من الانتقام بسبب حرياتهم ومعتقداتهم وأبرز العوائق التي أراها تغييب اللاجئين عن المشاركة في حوارات وطنية والتعاون لتحقيق المصالح المشتركة”.
لاجئون إلى متى؟
في المقابل تعلن الدولة السورية بين الحين والآخر مراسيم وقوانين للعفو العام وتمنح تسويات في مناطق هدأت بها الحروب، ومنحت فرصة لعودة فريق من المعارضين أو الفارين من الخدمة الاحتياطية والإلزامية أو من تخلف عن الالتحاق بخدمة العلم.
وربط الناطق الرسمي باسم المصالحة الوطنية في سوريا عمر رحمون في حديث إلى “اندبندنت عربية” العودة الآمنة بظروف سياسية ومعوقات تضعها الدول الغربية، وقال “تلك الدول تقف بوجه العودة الآمنة وتصر على عدم إيجاد حل للأزمة السورية وإبقاء المشكلات سواء في لبنان وتركيا والأردن، بينما عقدت سوريا وروسيا أكثر من مؤتمر لعودتهم”.
ويعرب رحمون عن اعتقاده بأنه بإمكان روسيا أو الدول العربية التي دخلت في مصالحة مع دمشق أن تتولى هذا الدور لكن السؤال، بحسب رأيه، هل يسمح الغرب لهم بالعودة؟
ويرى دالي أنه لا يمكن اعتبار جميع السوريين في لبنان لاجئين، إذ يبلغ عدد المسجلين لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قرابة 805 آلاف شخص حتى تاريخ 31 مارس (آذار) من عام 2023، كما “لا يمكن اعتبار جميع المسجلين لدى المفوضية للاجئين لاجئين، وإنما طالبو لجوء، بحيث لم تحدد مفوضية اللاجئين وضع جميع الأشخاص المسجلين لديها على أنهم لاجئون ودائماً ما تتذرع بأن الطلبات قيد الدراسة، ومنها ما انتظر لفترة زمنية تصل إلى 12 عاماً”.
من جهتها أكدت المتحدثة باسم المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في لبنان ليزا أبو خالد في تصريحات صحافية احترام المفوضية حق اللاجئين الأساسي في العودة بحرية وطوعية لبلدهم الأصلي وغب الوقت الذي يختارونه ولا تعوق عودتهم لسوريا، وأعلنت زيادة في عدد المداهمات الأمنية بين صفوف وتجمعات السوريين السكنية في لبنان بما لا يقل عن 13 مداهمة في جبل لبنان وشمال البلاد، مع تلقي المفوضية تقارير عن احتجاز سوريين بغرض ترحيلهم، عدد منهم مسجلون لديها.
ضغط اقتصادي
وحول جدلية الواقع الاقتصادي وإمكانية احتواء هذا العدد في ظل صعوبات وأزمات مالية يعانيها لبنان، يجيب قصي دالي “يستضيف هذا البلد أكبر عدد من اللاجئين مقارنة بعدد السكان والمساحة الجغرافية، وهذا يضع ضغوطاً على الخدمات العامة مثل المياه والصرف الصحي والكهرباء والتعليم والصحة والنفايات، لا سيما في ظل الأزمات المتعاقبة في البلاد وربما يؤدي ذلك في بعض الأحيان إلى المضاربة في فرص العمل”.
لكن، في المقابل، يستطرد دالي، فإن “وجود اللاجئين السوريين أدى إلى زيادة العجلة الاقتصادية والتجارية، كما أن لبنان حصل على الدعم المالي والمادي من المانحين بسبب اللاجئين”.
ويطالب دالي باحترام المخاوف المشروعة للاجئين السوريين، ومنها كفاءة البنية التحتية في بلادهم، مشيراً إلى أن عدم الانفتاح على اللاجئين والإصغاء إليهم وطمأنتهم من قبل الجهات والشخصيات المعنية بمثابة سبب كاف لجعلهم يترددون في اتخاذ القرار بالعودة”.
اندبندت عربي