على مدى العقدين الماضيين، كانت الانتخابات العامة التي أجرتها تركيا أشبه باستفتاء فقط على مستوى شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يرأسه الرئيس رجب طيب اردوغان. أجرت البلاد منذ وصول الحزب إلى السلطة عام 2020 نحو عشرة استحقاقات انتخابية محلية وتشريعية ورئاسية، واستطاع اردوغان وحزبه الفوز فيها جميعاً باستثناء الانتخابات المحلية الأخيرة التي جرت عام 2019 وخسر فيها الحزب الحاكم رئاسة بلديات كبرى كإسطنبول وأنقرة لصالح المعارضة. على عكس الاستحقاقات الماضية، تبدو الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي ستُجرى في الرابع عشر من أيار/مايو الجاري مختلفة بشكل كبير. فمن جانب، يخوض اردوغان، الذي يقود تحالفاً مكوناً من أربعة أحزاب هي «الحركة القومية» و«الرفاه المحافظ» و«الدعوة الحرة الكردي المحافظ» و«اليسار الديمقراطي» هذه الانتخابات في ظل ظروف اقتصادية صعبة وتضخم قارب حالياً الأربعين في المئة إلى جانب تداعيات الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا في السادس من شباط/فبراير الماضي. ومن جانب آخر، تتوحد أحزاب المعارضة على اختلاف توجهاتها الأيديولوجية للمرة الأولى في محاولة لإنهاء حكم اردوغان.
كرئيس استطاع أن يبقى في السلطة حتى الآن لأكثر من عقدين ولم يسبق لرئيس آخر في قرن من تاريخ الجمهورية أن تمكن من البقاء في الحكم كل هذه الفترة ويطمح لولاية أخرى وأحدث تحوّلاً كبيراً على تركيا في كافة المجالات من الاقتصاد الذي أضحى أحد أكبر عشرين اقتصاداً في العالم إلى الهوية الداخلية التي أعادت الاعتبار للهوية المحافظة مروراً بالهوية الجيوسياسية التي حوّلت تركيا إلى قوة قائمة بحد ذاتها ومستقلة إلى حد كبير في سياساتها الخارجية عن الغرب وتسعى للموازنة بين هويتها كعضو في حلف شمال الأطلسي وبين مصالحها مع الشرق، فإن الانتخابات المقبلة، لن تكون اختباراً فحسب لقدرة اردوغان على البقاء في السلطة، بل ستُحدد كذلك مستقبل إرثه السياسي. تعد المعارضة التركية في حال وصولها إلى السلطة بإلغاء النظام الرئاسي الذي أنشأه اردوغان بعد نجاحه في تمرير التعديلات الدستورية في عام 2017 بشق الأنفس، أي بعد سنتين فقط من محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، والتحول إلى نظام برلماني مُعزز. كما يٌقدم التحالف السداسي المعارض في وثيقته للسياسات المشتركة رؤية من شأنها أن تُحدث تغييراً واسعاً في السياستين الداخلية والخارجية. مع ذلك، لا يزال من غير الواضح كيف ستستطيع المعارضة تشكيل ائتلاف حكومي مستقر وإدارة التحديات الكبيرة التي تنتظر تركيا والتعامل بالكفاءة التي عمل بها اردوغان في إدارة سياسة خارجية مندفعة واللعب بين القوى العالمية الكبرى كالولايات المتحدة وروسيا.
في علامة على المخاطر التي تُهدده في هذه الانتخابات، اضطر اردوغان إلى توسيع تحالف الجمهور وضم أحزاباً صغيرة إليه كأحزاب الرفاه والدعوة الحرة واليسار الديمقراطي من أجل ضمان فوزه في الرئاسة وضمان الحصول على غالبية في البرلمان. ومع أن استطلاعات الرأي التي نظمتها شركات استطلاع مقربة من الحكومة توقعت أن يتمكن اردوغان من الفوز في الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى وأن يستطيع تحالفه الحصول على أكثرية في البرلمان، إلآّ أن استطلاعات الرأي شبه المستقلة تُجمع على الأقل على صعوبة أن ينجح اردوغان في هزيمة منافسه القوي كمال قليجدار أوغلو في جولة أولى لأنّه يواجه صعوبة في الحصول على نسبة الخمسين زائد واحد التي يفرضها قانون الانتخابات لحسم المنافسة الرئاسية دون الاضطرار لإجراء جولة ثانية.
على جبهة المعارضة، التي لم تستطيع على مدى عقدين من الزمن خوض منافسة متكافئة مع اردوغان والحزب الحاكم بسبب ضعفها وتشتتها، فإن الانتخابات المقبلة تُشكل فرصة نادرة لها للوصول إلى السلطة وربما لن تتكرر لسنوات أو لعقود أخرى. نجح زعيم حزب الشعب الجمهوري العلماني المعارض كمال قليجدار أوغلو في تشكيل تحالف من ستة أحزاب يضم إلى جانب حزب الشعب، أحزاب «الجيد» القومي و«المستقبل» و«الديمقراطية والتقدم» الذين يقودهما كل من رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو ووزير الاقتصاد السابق علي باباجان، وكلاهما انشقا عن حزب العدالة والتنمية الحاكم قبل سنوات، فضلاً عن الحزب الديمقراطي. ولأن هذا التكتل لن يكون كافياً للتحالف السداسي لحسم المنافسة الرئاسية والبرلمانية لصالحه، شرع قليجدار أوغلو منذ فترة في مفاوضات مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي من أجل الحصول على دعمه وقد تُوجت بإعلان تحالف العمل والحرية الذي يقوده الحزب الكردي مؤخرا دعم قليجدار أوغلو. مع ذلك، لا يزال قليجدار أوغلو يواجه عقبة محتملة قد تُفسد فرصه للنصر. ففي الانتخابات الرئاسية، هناك منافسان آخران يُشاركان في السباق وهما محرم إينجه رئيس حزب البلد، الذي انشق عن حزب الشعب الجمهوري بعد خسارته الانتخابات الرئاسية أمام اردوغان في عام 2019 وسنان أوغان عن تحالف الأجداد الذي يضم أحزابا قومية يمينية متشددة.
تبدو فرص كل من إينجه وأوغان للفوز في الانتخابات الرئاسية أو العبور إلى جولة إعادة محتملة ضئيلة للغاية إن لم تكن مستحيلة، لكنّ الأصوات التي سيحصلان عليها ستكون من الحصة الافتراضية للتحالف السداسي على اعتبار أنهما مُعارضان أصلاً لاردوغان. بعد الأزمة القصيرة التي عصفت بالتحالف السداسي على خلفية التوافق على مرشح رئاسي مشترك في الثالث من آذار/مارس الماضي، وأدت إلى انسحاب زعيمة حزب الجيد ميرال أكشنر مؤقتاً من التحالف قبل أن تعود إليه بعد بضعة أيام، أظهرت استطلاعات الرأي ارتفاعاً في نسب التأييد لإينجه من واحد في المئة إلى نحو سبعة، وهو ما أرجعته الاستطلاعات إلى الأصوات القومية في كل من حزبي الشعب الجمهوري والجيد، والتي قررت الابتعاد عن التحالف السداسي بسبب تحالف قليجدار أوغلو مع حزب الشعوب الكردي. علاوة على ذلك، تُشير الاستطلاعات أيضاً إلى أن إينجه تمكن من استقطاب فئة ناخبة أخرى من حزب الشعب الجمهوري لأنها عارضت تحالف قليجدار أوغلو مع الأحزاب المحافظة خصوصاً حزبي المستقبل والديمقراطية والتقدم لأن زعيميهما أحمد داود أوغلو وعلي باباجان كانا في السابق عضوين في حزب العدالة والتنمية. ومن المرجح على نطاق واسع أن تؤدي مواصلة إينجه خوض المنافسة الرئاسية إلى حرمان قليجدار أوغلو من احتمالية الفوز فيها من الجولة الأولى.
في حال ذهبت المنافسة الرئاسية إلى جولة إعادة، فإن المخاطر المحتملة على قليجدار أوغلو ستكون أكبر. في هذا السيناريو، سيجد قليجدار أوغلو حاجة لإعادة استقطاب الأصوات القومية التي خسرها، لكنّ ذلك سيفرض عليه التعهد بمواصلة نهج قوي في الصراع مع حزب العمال الكردستاني المحظور، وهو ما سيُثير غضب ناخبي حزب الشعوب. علاوة على ذلك، فإن الأصوات القومية المعارضة لتحالف كليجدار أوغلو مع الحزب الكردي، ولأنها لم تُقرر التصويت المحتمل لصالح محرم إينجه في جولة أولى لأنها تُفضّله، قد ترد على تمسك قليجدار أوغلو بتحالفه مع حزب الشعوب الكردي بالتصويت لصالح اردوغان في جولة ثانية. ومن غير المرجّح أن تُغير هذه الكتلة قناعاتها في معارضة كليجدار أوغلو في جولة إعادة محتملة يتنافس فيها مع اردوغان.
بقدر الأهمية التي تكتسبها المنافسة الرئاسية، فإن الانتخابات البرلمانية التي ستُجرى في نفس اليوم لا تقل أهمية. سيحتاج المنتصر في السباق الرئاسي سواء في جولة أولى أو ثانية أن يُسيطر التحالف الذي يقوده على البرلمان كذلك، لأن الانتصار في انتخابات رئاسية دون برلمانية والعكس سيكون انتصاراً غير مكتمل لأي طرف. يبدو الأمر بالنسبة للمعارضة أكثر أهمية لأنها، كي تستطيع تعديل الدستور وإلغاء النظام الرئاسي، فإنها ستكون بحاجة للحصول على غالبية الثلثين في البرلمان من أجل تمرير مشروع التعديل الدستوري اللازم أو على الأقل الحصول على أكثرية أعضاء المجلس لطرح التعديل الدستوري على الاستفتاء العام. حقيقة أن استطلاعات الرأي المستقلة التي أجريت في الأشهر والأسابيع القليلة الماضية لم تستطع تقديم صورة واضحة للمشهد الذي سيكون عليه البرلمان بعد هذه الانتخابات يجعل المستقبل الذي ينتظر تركيا أكثر غموضاً.
القدس العربي