يكتسب البحر الأسود أهميته الاستراتيجية، نظراً لأنه نقطة عبور مهمة بين أوروبا وآسيا، فضلاً عن أنه مفترق طرق يربط مناطق القوقاز وشرق البحر المتوسط وغرب البلقان والشرق الأوسط، وهو ما جعله في صميم المنافسة الاستراتيجية بين روسيا والغرب. إذ وقعت 10 حروب مدمرة على سواحل البحر الأسود أو بالقرب منه منذ نهاية الحرب الباردة، متفوقاً بذلك على أي منطقة بحرية أخرى في العالم. ولا يمكن فهم هذه الأهمية للبحر الأسود بمعزل عن موقعه الجغرافي والدول المطلة عليه، وهي: روسيا، وأوكرانيا، وجورجيا، ورومانيا، وبلغاريا، وتركيا.
وإذا كان بحر الصين الجنوبي هو ساحة المواجهة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين في آسيا، فإن البحر الأسود يناظره في المواجهة بين واشنطن وموسكو في أوروبا. في هذا السياق، جاءت دراسة بعنوان “البحر غير المضياف: نحو استراتيجية أمريكية جديدة لمنطقة البحر الأسود”، لكلٍ من ليزا آي أرونسون، وجيفري مانكوف، والصادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية “CSIS” في فبراير 2023.
“بحيرة روسية”
حتى قبل بدء الصراع الروسي الأوكراني في 24 فبراير 2022؛ فقد شكَّل نمو القوة العسكرية الروسية في البحر الأسود، وما حوله تهديداً كبيراً للأمن الإقليمي، بما في ذلك أمن حلف “الناتو” وحلفائه وشركائه. إذ ترى روسيا أن التعددية الجيوسياسية في البحر الأسود بعد انتهاء الحرب الباردة تتعارض مع مصالحها، خاصة في ظل جهود “الناتو” لاحتواء روسيا داخل ساحلها الشمالي الشرقي.
لذلك، بدأت روسيا الاستفادة من النزاعات حول حدودها لتعزيز وجودها العسكري، ومنع جيرانها الأصغر من تحقيق التكامل الأوروبي الأطلسي، وردع التدخل الخارجي في المنطقة. حيث غزت القوات الروسية جورجيا في أغسطس 2008 ونشرت أكثر من 4 آلاف جندي في المنطقة الساحلية في أبخازيا، والتي أعلنتها موسكو دولة مستقلة، كما ضمت أيضاً شبه جزيرة القرم في عام 2014، مما أدى إلى تغير ميزان القوى الإقليمي لصالح روسيا، والتي استولت على الأصول البحرية الأوكرانية في القرم واستثمرتها في بسط نفوذها وسيطرتها على منطقة البحر الأسود.
وبالنظر للدور الجوهري لهذا البحر في العمليات العسكرية الروسية في سوريا، وطموحات “الكرملين” الأوسع في شرق البحر المتوسط، فقبل قرار تركيا في مايو 2022 بإغلاق مضيقيْ البوسفور والدردنيل أمام السفن الحربية، قدم أسطول البحر الأسود الروسي الجزء الأكبر من القدرات لسرب البحر المتوسط، الذي أعادت روسيا تشكيله في عام 2013 لأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة خلال الصراع في سوريا.
ومع، تزايد التداعيات الاستراتيجية لحصار أوكرانيا وسيطرة روسيا على الساحل الشمالي للبحر الأسود، فلا يزال طموح روسيا الاستراتيجي يتمثل في جعل أوكرانيا غير ساحلية، فلا تستطيع التصدير أو الاستيراد عبر موانيها على البحر الأسود، بكل ما يحمله ذلك من تداعيات سلبية ليس فقط على أوكرانيا، ولكن على الدول المُطلة على البحر الأسود ومستوردي السلع الأوكرانية. لذلك؛ فإن قدرة موسكو على خنق التجارة من مواني أوكرانيا لا تزال توفر لها نفوذاً للضغط من أجل إنهاء العقوبات الغربية المفروضة عليها.
رؤية دول البحر الأسود
تفرض محاولات روسيا عسكرة البحر الأسود ضغوطاً كبيرة على أمن الدول الساحلية في المنطقة، خاصة في ظل انعدام وجود رؤية مشتركة فيما بينها لكيفية مواجهة تداعيات السياسات الروسية، حيث تُعد الدول الساحلية – باستثناء تركيا – ضعيفة نسبياً، وجميعها تواجه تحديات كبيرة تتعلق بسيادة القانون، والفساد، والنفوذ الروسي، والاعتماد الاقتصادي على روسيا خاصة في مجال الطاقة.
لذا، ففي الوقت الذي تكافح فيه أوكرانيا من أجل بقائها في الحرب التي تخوضها أمام روسيا، تشعر مولدوفا وجورجيا ورومانيا وبلغاريا وتركيا بالقلق من احتمال حدوث عدوان روسي في المستقبل خاصة أنها غير متأكدة من التزام حلف “الناتو” بأمنها. ومع ذلك؛ فإن مواقفها متباينة بشدة تجاه العلاقات مع روسيا، وفقاً لما يلي:
– تركيا: على الرغم من أنها تُعد العمود الفقري لاستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية وحلف “الناتو” في منطقة البحر الأسود، إلا أنها وضعت نفسها منذ 1991 كقوة إقليمية مستقلة تتطلع إلى موسكو للحصول على الفرص الاقتصادية والدعم السياسي. فأنقرة تميل إلى الحلف فقط عندما يخدم مصالحها الوطنية الضيقة، انطلاقاً من سعيها للحفاظ على نوع من الملكية الإقليمية على البحر الأسود بناءً على تفسير أنقرة لاتفاقية “مونترو” لعام 1936، والتي تحدد عدد السفن الحربية غير الساحلية وحمولتها ومدة بقائها في البحر الأسود.
بموازاة ذلك، تتبع تركيا مع روسيا “التعاون التنافسي”، حيث تحافظ على علاقة عمل مع موسكو لتأمين الأهداف التركية النهائية في النزاعات الممتدة من ليبيا وسوريا إلى جنوب القوقاز؛ لذا ترى أنقرة أن علاقات مثمرة مع روسيا “ضرورة وليست خياراً” بالنسبة لتركيا، التي تعطي للصراع مع حزب العمال الكردستاني وزناً استراتيجياً أكبر من التوسع الروسي حول البحر الأسود، بسبب دور روسيا في مساندة النظام السوري، فضلاً عن الشراكة التجارية والاقتصادية بين موسكو وأنقرة للتحوط ضد الاعتماد على ما يراه العديد من المسؤولين الأتراك غرباً غير موثوق به.
– جورجيا: قد يكون لسيطرة روسيا على البحر الأسود تأثير كبير في جورجيا، مع وجود حوالي خُمس أراضيها ونحو ثُلث ساحلها تحت السيطرة الروسية، بما يجعل قدرتها محدودة في تشكيل ديناميكيات الأمن الإقليمي، ويعمق الاحتلال الروسي لأوستينيا الجنوبية/ تسخينفالي وأبخازيا منذ أغسطس 2008 الانقسام السياسي في جورجيا.
لمواجهة ذلك، تركز استراتيجية جورجيا على تحقيق تكامل مع الغرب، ووضع نفسها كدولة عبور حيوية تربط أوروبا بحوض بحر قزوين ومن ثم آسيا، حيث أدى إنشاء خطوط أنابيب النفط والغاز الجديدة والطرق والسكك الحديدية إلى ربط أذربيجان وجورجيا وتركيا بالأسواق الأوروبية. إلا أن قدرة موسكو على قطع طرق العبور تمثل تهديداً ليس فقط لجورجيا ولكن لاستراتيجية أوروبا لتنويع مصادر الطاقة، وللمشروع الأوسع لتوطيد النظام الليبرالي في أوراسيا.
يضاف لذلك، المخاوف الجورجية بشأن مدى الدعم الغربي، ففي الوقت الذي تسعى فيه للحصول على تطمينات من الغرب، تعمل جورجيا على تجنب إعطاء موسكو أي مبرر للعدوان مجدداً، فتدعو لإنهاء الحرب وتعرقل جهود تقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا نظراً لقلقها من أن أي ضمانات أمنية قد تحصل عليها أوكرانيا كجزء من اتفاقية لإنهاء الحرب لن تمتد إلى جورجيا، لذا ستخرج الأخيرة أقل أماناً حتى حال هزيمة روسيا.
– رومانيا: يرى المسؤولون في رومانيا أن التدخل الروسي في أوكرانيا يؤثر في الأمن القومي لبلدهم، لأنهم قلقون بشأن محاولات روسيا السيطرة على الساحل الجنوبي لأوكرانيا، خاصة “جزيرة الأفعى” التي تقع على بُعد 45 ميلاً فقط من الساحل الروماني. وحال نجاح موسكو في ذلك فسوف تتعطل وتتهدد المواني الرومانية، فضلاً عن خلق حالة من عدم اليقين القانوني المتجدد حول ترسيم حدود الجرف القاري والمناطق الاقتصادية الخالصة بين رومانيا وأوكرانيا، والتي تمت تسويتها عام 2009 بعد نزاع ثنائي استمر لعقود. لذلك، تحدد استراتيجية الدفاع الوطني لرومانيا البحر الأسود على أنه “مصلحة استراتيجية قصوى”، وروسيا باعتبارها تهديداً “عدوانياً”.
– بلغاريا: سعت بلغاريا إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا، عبر توطيد روابط الاقتصاد والطاقة، وعلى الرغم من أن بلغاريا عضو في كلٍ من “الناتو” والاتحاد الأوروبي، تجادل الدراسة بأن ثمة نظرة متناقضة لأوروبا، إذ يراها البلغار تارة “مدينة فاضلة يجب محاكاتها”، وتارة أخرى “كياناً معادياً لم يُقدر الدول الواقعة على أطرافه”. من ناحية أخرى، يُنظر لروسيا بصفتها محررة بلغاريا لقرونٍ من الهيمنة العثمانية.
إلا أن الصراع الروسي الأوكراني مثَّل نقطة تحول رئيسية في تلك النظرة، إذ أظهرت بلغاريا دعماً لأوكرانيا، وتضامناً مع حلف “الناتو”، كما انضمت للعقوبات الغربية، فضلاً عن تقديم عرض لإصلاح المعدات العسكرية لأوكرانيا. حيث أسهم الصراع في تعزيز إدراك بلغاريا لروسيا على أنها التهديد الرئيسي لأمنها. كما قللت بلغاريا من اعتمادها على روسيا كمصدر للطاقة، وفي إبريل 2022 قطعت روسيا إمدادات الغاز عن بلغاريا وبولندا بعد رفض كلا البلدين سداد المدفوعات بالروبل.
نحو استراتيجية أمريكية
وفقاً للدراسة، فمن غير المُرجح تبني استراتيجية شاملة بقيادة إقليمية في البحر الأسود، فبينما تتمتع تركيا بالقدرات العسكرية التي تؤهلها لذلك، إلا أنها تفتقر للحوافز السياسية لتولي دور قيادي أكبر، لذا، فعلى الولايات المتحدة وحلف “الناتو” العمل مع دول المنطقة على أساس جزئي وأن يكون لديهما فهم دقيق وشامل لكيفية تصور هذه الدول الساحلية للتهديدات في منطقة البحر الأسود، وما هي أشكال المساعدة التي تعطيها الأولوية، وكيف يمكن أن تستجيب لمشاركة الولايات المتحدة في المنطقة.
وعلى الرغم من نجاح الولايات المتحدة في استعادة القيادة داخل حلف “الناتو”، وتعزيز قواتها في أوروبا، فضلاً عن قرار السويد وفنلندا التقدم بطلب للحصول على عضوية الحلف، واعتماد “الناتو” مفهوماً استراتيجياً جديداً يحدد روسيا باعتبارها “التهديد الأكثر أهمية ومباشرة لأمن الحلفاء والسلام والاستقرار في أوروبا”، إلا أن مواصلة الدعم لأوكرانيا تتطلب رؤية شاملة لمعالجة التحديات الأمنية في منطقة البحر الأسود؛ نظراً لأن الحرب في أوكرانيا أدت دوراً حاسماً في إظهار الأهمية الاستراتيجية لمنطقة البحر الأسود بالنسبة لأوروبا.
وتُشير الدراسة إلى أنه يجب على الولايات المتحدة وحلفائها التركيز على زيادة المساعدات الأمنية لأوكرانيا بطريقة توحي بأنهم جادون في تمكين كييف من دفع القوات الروسية وإنهاء الحرب بشروط مواتية، وعلى الرغم من أن نتيجة الحرب لا تزال غير واضحة، فمن شبه المؤكد أن تنشأ مواجهة طويلة الأمد بين روسيا والغرب.
ختاماً، فلدى الولايات المتحدة – وفقاً للدراسة – فرصة لتقوية قيادتها للمنطقة ووضع استراتيجية تتضمن مقاربة شاملة للأمن الإقليمي، على أن تتضمن عِدة ركائز أساسية، كما يلي:
– تعزيز الحضور الأمريكي في المنطقة، نظراً لعدم وجود حليف إقليمي أو مجموعة من الحلفاء يمكن أن تحل محل القيادة الأمريكية أو تحفِّز التعاون الإقليمي، على أن تقوم واشنطن بتسريع تسليم طائرات F-16 لبلغاريا، والسماح لطرف ثالث بنقل صفقة رومانيا مع النرويج، وكذا الحصول على موافقة الكونغرس لبيع F-16 لتركيا.
– تعزيز أطر التعاون الإقليمي، حيث يجب على “الناتو” أن يحافظ على دعمه لأوكرانيا وجورجيا وأن يعزز التعاون بين الحلفاء والشركاء، بما يتماشى مع اتفاقية “مونترو”.
– السعي لتحقيق توازن استراتيجي جديد مع تركيا، نظراً لقيود الموارد المالية وحاجة واشنطن إلى التركيز على المحيطين الهندي والهادئ، فإن أي استراتيجية أمريكية للبحر الأسود يجب أن تتضمن دوراً أكبر لتركيا، على الرغم من أن الأخيرة لا تزال حذرة من الاضطلاع بدور أكثر بروزاً ليس فقط بسبب الصعوبات السياسية والاقتصادية الداخلية ولكن لأنها تسعى إلى تجنب التصعيد مع روسيا. لذلك، فإن التحدي الذي تواجهه واشنطن في البحر الأسود هو تشجيع أنقرة على بذل المزيد من الجهد من أجل الأمن الإقليمي مع تخفيف مخاوف الدول الأخرى.
– تعزيز المرونة الديمقراطية، من خلال أداء دور مهم في دفع دول البحر الأسود إلى تعزيز سيادة القانون ومكافحة الفساد، عبر زيادة الدعم المالي المخصص للمرونة الديمقراطية، ودعم الجهود لتقليل الاعتماد الاقتصادي أو في مجال الطاقة على روسيا.
– زيادة مشاريع البنية التحتية الإقليمية، بحيث يتم التفكير في البنية التحتية والاتصال كمبادرات استراتيجية بالتوازي مع الدعم العسكري، من خلال زيادة الاستثمار في الطرق الجديدة والسكك الحديدية وخطوط الأنابيب والألياف الضوئية ومرافق المواني والبنية التحتية الأخرى، خاصة وأن المشاريع ذات الأهمية الاستراتيجية لا يمكن تركها دائماً للسوق لأن درجة أكبر من دعم الدولة ستكون ضرورية للتحوط من المخاطر وتعبئة الاستثمار الضروري.
المستقبل للدراسات