تسعى هيئة تحرير الشام لتعزيز مكانتها كحاكم قادر على توفير الخدمات الرئيسية وتحسين الأحوال المعيشية للسوريين الذين يعيشون تحت سيطرتها، وهو ما يعكس مخاوف من خسارة نفوذها في ظل التقارب العربي والتركي مع دمشق.
عكس إعلان هيئة تحرير الشام، المسيطرة على مساحة واسعة من الشمال السوري، نأيها عن تنظيم القاعدة وقبولها بالتعددية والتسامح الديني خوفا شديدا على مكتسباتها التي حققتها في سوريا، والتي صارت مهددة بفعل التطورات الإقليمية، وفي مقدمتها تقارب دمشق مع الدول العربية وتركيا.
وتُجبر المتغيرات الجارية في الساحة هيئة تحرير الشام على اللحاق بالأحداث لتكون داخل المشهد وليست على هامشه أو خارجه.
وتسابق الهيئة الزمن لأن التيار الجهادي المنبثقة عنه مُني بهزيمة ثقيلة، وعاد المقاتلون الأجانب إلى ديارهم ويلقى الكثير من القادة الجهاديين حتفهم ضمن تدابير مكافحة الإرهاب الدولية.
وتعمل الهيئة على تعزيز مكانتها كحاكمة لنظام ناشئ ومهيمنة على سلطة بمعزل عن الجمود الأيديولوجي والولاءات التنظيمية أكثر من الماضي.
ويعود هذا الاحتياج إلى رغبتها في أن تكون جزءًا من التسويات المقبلة بين النظام السوري وتركيا، وبينه وبين العديد من الدول العربية بصورة ثنائية، وألا تُعقد التسويات على حسابها أو في غيابها.
وتخشى الهيئةُ أن يؤثر عليها الماضي التنظيمي والتكفيري بالنظر إلى موقف الكثير من الدول العربية المناهض لتيار الإسلام السياسي عمومًا والتنظيمات السلفية الجهادية على وجه الخصوص.
الجولاني لا يريد أن يقف متفرجا، وهو ما قد يُلحقه بقطار الجهاديين المهزومين في ظل واقع مختلف تسوده مصالح الدول
وتمثل محاولات التقارب وإعادة العلاقات بين سوريا وتركيا هاجسًا لقادة هيئة تحرير الشام التي نمت واكتسبت نفوذها على الأرض من خلال توظيف واستغلال مساحات العداء والصراع بين حكومتي البلدين.
وتتأسس خطتها لتثبيت نفسها داخل الواقع المستقبلي للمنطقة على الانتقال من منظمة جهادية إلى هيكل حكم منفتح على الجهات الخارجية الفاعلة، الدولية والإقليمية، ويحظى بثقة المكونات الداخلية والسكان المحليين.
وقطعت الهيئة أشواطًا وتنقلت من محطة إلى أخرى بداية من الإمعان في الانسلاخ عن الحركة الجهادية بهدف تشكيل هوية جديدة ترتكز على تمثيل الخط الثوري وإثبات القدرة على تقديم الخدمات الرئيسية للسكان وانتهاءً بالتنصل من الماضي القديم الذي شهد تجاوزات في مجال حقوق الإنسان ضد الأقليات ومختلفي العقيدة من دروز ومسيحيين.
وشرعت الحركة في سلخ نفسها من تيار الجهاد العالمي لتصبح فقط فصيلًا متمردًا يتبنى ما يُعرف بالجهاد المحلي، ما اقتضى إعلان الانفصال عن تنظيم داعش ثم محاربته وخوض صراع دموي مع خلاياه.
وحافظت الهيئة على علاقاتها مع الأجنحة الجهادية الموالية للقاعدة وإن كانت تتبنى الجهاد العابر للحدود، مثل التشكيلات المصرية والأردنية وغيرها، لمساعدتها في التغلب على منافسيها الجهاديين في الداخل.
المتغيرات الجارية في الساحة تُجبر هيئة تحرير الشام على اللحاق بالأحداث لتكون داخل المشهد وليست على هامشه أو خارجه
وبعد تفوق هيئة تحرير الشام، التي كانت تحمل حينها اسم “جبهة النصرة”، على داعش بمساعدة غالبية الفصائل المحلية المتمردة لعب الجهاديون من مختلف الفصائل دورًا هاما في توطيد حكمها في شمال غرب سوريا عبر المساهمة في مضاعفة أعداد عناصرها وإلحاق هزائم ميدانية بفصائل منافسة، مثل حركة أحرار الشام وغيرها.
وانتهى دور الجهاديين المتشددين في تقويض الحركات المسلحة المنافسة لهيئة تحرير الشام وبعدها انقلب عليهم زعيمها أبومحمد الجولاني، الذي يتسم ببراغماتية لافتة، بهدف الانتقال هذه المرة من حركة متمردة تتبنى الجهاد المحلي إلى نظام سياسي حاكم يخطط لنيل الاعتراف به وبشرعية سيطرته على مناطق تمركزه إقليميًا ودوليًا.
وتنوعت الوسائل التي استخدمها قادة هيئة تحرير الشام للتخلص من حلفائهم الجهاديين بين التصفية الجسدية والاغتيالات والإقالة والإبعاد، واستغرق العمل على تلك الخطط وصولًا إلى استكمالها اليوم أكثر من سبع سنوات.
وضرب قادة هيئة تحرير الشام عصفورين بحجر واحد، فتخلصهم من حلفائهم الجهاديين أزاح عن كاهلهم الارتباك الذي لازمهم بشأن تحديد الهوية من خلال إعلان الطلاق الأيديولوجي من تيار السلفية الجهادية بشقيه المحلي والعالمي.
ويترتب على هذا الإجراء امتلاك قادة الهيئة قدرة على الزعم أنها كيان يحترم حقوق الإنسان والتعددية الدينية، فأغلب من جرى التخلص منهم تورطوا في اغتيالات وعمليات اضطهاد ممنهج ضد الأقليات الدينية.
إدراك هيئة تحرير الشام للخطر الذي سيترتب على التطبيع بين دمشق وأنقرة دون أخذها في الاعتبار دفَعها إلى اكتساب النفوذ على الأرض
وبتحررها من عبء ماضيها الجهادي وطرد أو تصفية العناصر الأكثر تشددًا تستطيع هيئة تحرير الشام ادعاء أنها جديرة بثقة المجتمع الدولي والدخول كشريك في تسويات إقليمية بجانب نظام دمشق، بصفتها نظام حكم مستقلا.
ويؤسس قادة هيئة تحرير الشام هوية حركتهم الجديدة على تكثيف دعاية تفيد بمفارقتها لمسار الجهاد العالمي والمحلي واحترامها للأقليات والتعددية وقيم التسامح الديني، وانشغالها بشؤون الحكم والإدارة عن إبداء أي اهتمام بملفات خارجية طالما شغلت حيزًا كبيرًا من اهتمام الحركة الإسلامية، مثل القضية الفلسطينية.
وبدلًا من الترويج لنفسها ككيان جاء لإنقاذ أهل السنة المعرضين لخطر وجودي في سوريا، كما كانت تفعل من قبل مراهنة على تأثيرات المظالم والأضرار التي لحقت بأغلبية السكان السنة طوال نصف قرن، باتت الهيئة تروج لنفسها كإدارة سياسية قادرة على توفير الخدمات الرئيسية وتحسين الأحوال المعيشية لكل المواطنين على اختلاف انتماءاتهم.
وارتكز خطاب قادة الهيئة في الفترة الماضية على الترويج لمشاريع في مجالات الري والزراعة والصناعة والدفع باتجاه الانفتاح على العالم لربط نظامها بالاقتصاد الدولي، بمعزل عن الخطاب التقليدي السابق المُرتكِز على الدعايات الطائفية ومزاعم تمثيل السنة في مواجهة الطوائف الأخرى.
وتهدف محاولة أبومحمد الجولاني تأطير مشروع دولة موازية دون خلفيات تنظيمية في الشمال السوري في هذا التوقيت إلى فرض نفسه كطرف في المعادلات الجديدة بالمنطقة لكي لا يقف متفرجا، وهو ما قد يُلحقه بقطار الجهاديين المهزومين في ظل واقع مختلف تسوده مصالح الدول ومنطقها وخطابها.
وتستبق الهيئة خطوة تقارب تركيا مع حكومة دمشق التي يجري التمهيد لها منذ العام الماضي، وتبعث رسالة مفادها أنها لم تعد فقط كيانا مسلحا متمردا يحافظ على قوته أمام الجميع ويوظفه طرف ضد آخر، وإنما صارت كيان – دولة جديرا بالدخول في مفاوضات وتسويات مع الأطراف الفاعلة.
إن إدراك هيئة تحرير الشام للخطر الذي سيترتب على التطبيع بين دمشق وأنقرة دون أخذها في الاعتبار دفَعها إلى اكتساب النفوذ على الأرض بالتوسع والسيطرة على المعابر في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون، أو من خلال التحول إلى دولة غير مكتملة أو كسب ثقة السكان المحليين.
وتخطط الهيئة من وراء مضاعفة السطوة الاقتصادية لديها والظهور بمظهر إدارة حاكمة للتفاوض مع دمشق مثلها مثل تركيا، حيث سيصبح التفاوض في هذه الحالة متاحًا مع كتلة مسيطرة ومتجانسة وتتحكم في ملفات اقتصادية، راضخة للمتغيرات الإقليمية والدولية، وهي التي أظهرت تجاوبًا مع تفاهمات أستانة وسوتشي سابقًا رغم معارضة بعض قادتها لها.
وتريد تركيا التعامل مع كيان موحد نافذ في الشمال السوري يُنهي فوضى الكيانات المتمردة المتناحرة، وهو ما حققته بشكل كبير هيئة تحرير الشام التي تخطط لكسب ثقة الأتراك وفرض نفسها كطرف يمكن الاستفادة منه على حكومة دمشق وفقًا لمعادلات تبادل المصالح.
وتتعامل هيئة تحرير الشام، وهي الفصيل الذي يسيطر على جزء كبير من مدينة إدلب وريفها وريف حماة الشمالي وريف حلب الشرقي، مع تطور تقارب سوريا مع محيطها العربي بالانخراط في الدبلوماسية والحكم وتغيير الهوية بما يفوت الفرصة على مساعي تدميرها وردعها بالتنسيق مع دمشق.
ويدعم نأي هيئة تحرير الشام بنفسها عن المعتقدات والممارسات المتطرفة وعن الخط الجهادي مساعيها للشطب من قائمة المنظمات الإرهابية ونيل اعتراف دولي بشرعية حكمها.
ولا يرسل تحول الهيئة إلى كيان حاكم يراعي حقوق الإنسان ويفسح مجال المشاركة في الانتخابات المحلية أمام جميع السكان، بمن فيهم النساء، برسائل إلى الداخل المحلي والمحيط الإقليمي فقط، بل أيضا إلى الغرب والقوى الدولية، ويمثّل سابقة تشجع الجماعات الأخرى على أن تحذو حذوها.
العرب